لم يكن المؤتمر الصحفي لوزير الصناعة والثروة المعدنية مجرّد استعراض أرقام أو تكرار لخطابٍ مألوف، بل جاء كاشفًا عن مرحلة مختلفة من النضج الصناعي الذي تعيشه المملكة؛ مرحلة تُدار فيها السياسات بلغة النتائج، ويُقاس فيها الطموح بقدرة المنظومة على التنفيذ لا بالاكتفاء بالشعارات. منذ اللحظة الأولى، بدا واضحًا أن الوزير يتحدث من موقع من يملك الصورة الكاملة: سلسلة مترابطة تبدأ من التشريع، مرورًا بالتحفيز، وانتهاءً بالأثر الاقتصادي والاجتماعي. لم يكن التركيز على الصناعة بوصفها قطاعًا معزولًا، بل باعتبارها قلبًا نابضًا في منظومة اقتصادية أشمل، تتقاطع فيها الطاقة، وسلاسل الإمداد، والتوطين، والتقنية، والاستثمار، وحتى الأمن الوطني. في حديثه، لم يُخفِ الوزير حجم التحديات، لكنه أعاد تعريفها. فالتحدي - كما عكسه الخطاب - لم يعد في استقطاب المستثمر أو إصدار الترخيص، بل في ضمان الاستدامة، ورفع الإنتاجية، وبناء قاعدة صناعية قادرة على الصمود في وجه التقلبات العالمية. وهنا تحديدًا ظهرت لغة الأرقام لا كغاية، بل كدليل: آلاف المصانع المرخّصة، مئات المصانع التي دخلت حيز الإنتاج، ومليارات الريالات التي تحولت من وعود استثمارية إلى أصول قائمة على الأرض. الأهم من ذلك أن المؤتمر كشف عن تحوّل في فلسفة الدور الحكومي. لم يعد دور الوزارة مقتصرًا على التنظيم أو الرقابة، بل بات أقرب إلى الشريك الممكن؛ حكومة تفتح المسارات، وتختصر الزمن، وتعيد تصميم الإجراءات، دون أن تتنازل عن صرامة الحوكمة أو متطلبات الجودة. هذا التوازن بين السرعة والانضباط هو ما أعطى الخطاب مصداقيته، وأبعده عن لغة العلاقات العامة. كما حمل المؤتمر رسالة واضحة إلى الداخل والخارج: أن الصناعة في المملكة لم تعد رهان المستقبل فقط، بل حقيقة الحاضر. فحين يتحدث الوزير عن سلاسل إمداد محلية، وعن رفع المحتوى المحلي، وعن صناعات نوعية ذات قيمة مضافة، فهو يربط الصناعة مباشرة بوظائف نوعية، وباقتصاد معرفة، وباستقلالية إستراتيجية تتجاوز الحسابات الآنية. وفي خلفية كل ذلك، كان حضور رؤية المملكة 2030 واضحًا، لا بوصفها شعارًا يُستدعى عند الحاجة، بل كإطار حاكم يُقاس به الأداء، وتُراجع في ضوئه السياسات، وتُعدّل بناءً عليه الأولويات. بدا المؤتمر وكأنه رسالة طمأنة بأن ما كُتب في الرؤية يُترجم اليوم إلى قرارات، ومبادرات، ومؤشرات قياس، ومساءلة. في المحصلة، لم يكن المؤتمر لوزير الصناعة والثروة المعدنية حدثًا إعلاميًا عابرًا، بل لحظة كشف وشفافية، أكدت أن الصناعة السعودية دخلت مرحلة العمل الصامت والنتائج الصاخبة. مرحلة لا تُقاس بكثرة التصريحات، بل بقدرة المصانع على الإنتاج، وبثقة المستثمر، وبأثرٍ اقتصادي يشعر به المواطن قبل أن يقرأه في التقارير. وهنا تحديدًا، تتجلى قيمة هذا النوع من المؤتمرات: ليس فيما يُقال فقط، بل في ما يعكسه من ثقة دولةٍ تعرف ماذا تريد، وتسير نحوه بخطى محسوبة، وواثقة.