وفي دراسة حياة طرفة بن العبد البكري نرى أيضًا أن معظم الدارسين يجانبون سبيل العلم، فيذكرون أن عمرا بن هند ملك الحيرة، غضب على طرقة وعلى خاله المتلمس، وكتب لهما كتابين إلى المكعبر عامله على البحرين وأوهمهما أنه أمر لهما في ذينك الكتابين بجائزة يقبضانها من المكعبر، وتزعم الرواية أن المتلمس شك فيالكتاب الذى بحمله، فغضَه، ثم دفعه إلى صبي من صبيان الحيرة، فإذا فيه أمر للمكعبر بقتل المتلمس. فقال المتلمس عند ذلك لابن أخته طرفة: (ما في كتابك إلا مثل الذى في كتابي). فلم يشأ طرفة أن يصدق خاله. فمزق المتلمس كتابه ونجا بنفسه، ومضى طرفة لطيته حتى وصل إلى المكعبر، فإذا فيكتابه أيضًا أمر للمكعبر بقتل طرفة. وأمر المكعبر طرفة بالهرب فلم يشأ طرفة أن يهرب وآثر الموت على شريطة أن يسقيه المكعبر خمرًا ثم يفصد أكحله حتى يموت. وإلى جانب هذه الرواية التي تجانب العقل كل المجانبة. رواية ثانية راجحة معقولة تذكر أن طرفة كان صديقًا لعمرو بن مامة أخي عمرو بن هند لأبيه، وأن طرفة وعمرا بن مامة ذهبا إلى اليمن في تجارة للإبل فخرجت عليهما غارة قتلا فيها كلاهما. ولكن معظم الدارسين يرون أن ما يجانب العقل أحق بالاهتمام مما يناسب العقل، لأن الأدب ليس من العلوم التي تستند إلى العقل في رأيهم. وأغرب من ذلك في شأن طرفة عندهم أن طرفة عاش ستا وعشرين سنة. طرفة قد مات باكرا بلا ريب، ويبدو لي أنه كان قد جاوز الثلاثين من عمره لما أدركته الوفاة في غارة اليمن.. على أن كثيرين من الدارسين يصرون على أن طرفة توفي في السادسة والعشرين من عمره ويستشهدون على صحة قولهم ببيتين للخرنق أخت طرفة فيما قيل، هما: عددنا له ستا وعشرين حجة، فلما توفاها استوى سيدا ضخما فجعنا به لما رجونا إيابه على خير حال لا وليدا ولا تحما ! لنفرض الآن أن البيتين للخرنق، وأن الخرنق هذه هي أخت طرفة، وأن هذين البيتين قد قيلا في طرفة بن العبد البكري. ففي البيت الأول تقول الشاعرة أن من تعنيه قد ساد في قومه لما بلغ السادسة والعشرين من العمر. وليس في البيت ذكر للموت، إلا إذا كان هؤلاء يظنون أن «توفاها» معناها «مات» ! أن كل ما في هذا البيت أن المعني به قد ساد قومه لما أتم السادسة والعشرين من العمر، وهذا معنى «توفاها». أما في البيت الثاني ففيه أن الشخص المذكور قد مات في سفرة كان يرجى أن يعود منها غائمًا. ثم إن في البيت الثاني دليلا على أن المرثي لم يكن وليدا، ولا كان أيضًا قحما، والقحم هو الكبير السن جدًا، كما في القاموس. لنغادر الآن أرض الأدب إلى أرض الفلسفة ولنسترح قليلا على تخوم الأرضين. لأحد شيوخ الأدب في العصر الحاضر قول هو أن الشعر لغة العاطفة وأن النثر لغة العقل، ودليله على ذلك أن الفلسفة اليونانية كتبت بالنثر. إن هذا القول خليق أن يحلل في كتاب. أنا لا أنكر، ولا يجوز لغيرى أن ينكر، أننا إذا أردنا أن نعبر عن عواطفنا فإننا نستعين على ذلك عادة بالشعر، وأما إذا أردنا أن نعالج موضوعا فكريا فإننا نلجأ في ذلك إلى النثر. على أن ذلك ليس قاعدة فاصلة. لما فرع اليونانيون القدماء أنواع الشعر وجدوها أربعة: الشعر الغنائي والشعر الملحمي والشعر التمثيلي والشعر التعليمي، والشعر التعليمي الذى عرفته الأمم لا صلة له بالعاطفة. ومع ذلك فاسمه شعر. وأي عاطفة في قول ابن مالك في ألفيته المشهورة في تعداد الأماكن التي تكسر فيها همزة «أن»: واكسر في الابتداء، وفيبدء صله، وحيث «أن» ليمين مكمله. وكسروا من بعد فعل علقا باللام كاعلم أنه لذو تقى! ثم إن ابن خلدون، وهو من نعلم في تاريخ الفكر وفيإصابة الرأي ، كان ينزع عن ديوان المتنبي صفة الشعر فيقول: وكان من لقيته من شيوخنا لا يعدون المتنبي في الشعراء ! أن شعر المتنبي عند ابن خلدون وعند شيوخ ابن خلدون كان ضربا من ضروب الحكمة وبابا من أبواب العقل. وكذلك القول المشهور: (أبو تمام والمتنبي حكيمان، والشاعر البحتري) دليل آخر على أن الشعر لم يكن دائمًا لغة العاطفة، بل كان في كثير من الأحيان ، عند نفر من النقاد، لغة العقل. وإذا كنا نحن جميعًا نفضل الشعر الذى هو من باب العاطفة على الشعر الذى هو من باب العقل، فإنه لا يجوز فيباب العلم أن نخص الشعر بالعاطفة وحدها، أو أن نخص العاطفة بالشعر وحده. وبعد، فمن الذى روى لنا أن الفلسفة اليونانية لم تكن إلا فيالنثر. إن اليونانيين الأولين لم يفرقوا عند تدوين الفلسفة بين النثر والشعر. إن أكنوفانس مؤسس المذهب الإيلي ثم برمينينس زعيم ذلك المذهب ثم انبذكليس فيلسوف الطب والعلوم الطبيعية، وهم من المشاهير في تاريخ الفلسفة القديمة قد اختاروا أن يدونوا فلسفتهم شعرا. وكذلك كريتياس السفسطائي ويامبليخوس الذى كان من عنجر، فيسهل البقاع، على نحو خمسين كيلو مترًا من مدينة بيروت، قد دونا فلسفتهما في الشعر أيضًا. أن الشعر ألصق بالعاطفة لا ريب فيذلك، وأن طبيعة النثر أقرب إلى العقل، ما فيذلك شك ولكننا لا نستطيع أن نوافق الذين يريدون أن يقيموا بينهما ستارا حديديا. 1966* * مؤرخ وأديب لبناني «1906 - 1987»