قد يبدو العنوان غريبا بعض الشي، إلا أن غرابته لا تتجاوز غرابة الواقع الذي نعايشه اليوم. واقع تتساقط فيه الروابط الإنسانية كما يتساقط الورق الجاف حين يفقد الشجرة ماءها. فقد انكمشت القلوب على صمتها، وتراجعت مساحات التواصل، وأصبح الكثيرون يختبرون عزلة داخلية وإن كانوا بين الناس. شهدت مجتمعاتنا في العقود الأخيرة تحوّلات عميقة انعكست على سلوك الأفراد وطريقة تفاعلهم. فكثير من القيم التي شكّلت أساس العلاقات-كالتواصل، والمساندة، واللقاء العامر بالمحبة - بدأت تتراجع بغياب جيلٍ حمل هذه القيم وعاشها واقعًا. فقد رحل أولئك الذين كانت تجمعهم الأخوّة وتنظّم لقاءاتهم المودّة، وكان حضورهم يضفي استقرارًا اجتماعيًا ومعنويًا. ومع رحيلهم، انطفأت بعض المساحات المضيئة التي كانت تمنح العلاقات عمقًا ودفئًا. لقد أصبحت البيوت أكثر هدوءًا مما ينبغي، والقلوب أكثر انغلاقًا مما اعتادت عليه. لم يعد التواصل كما كان، ولم تعد المجالس كما عهدناها. وبين السؤال والآخر، يبرز تساؤل جوهري: هل تغيّر الناس حقًا، أم أن غياب جيلٍ محمّل بالقيم الأصيلة أفسح المجال لفراغ صعب الامتلاء؟ يبدو أن المسألة تتجاوز مجرد اختلاف بين الأجيال؛ فهي تحوّل ثقافي واجتماعي واسع، رافقته ضغوط الحياة الحديثة، وانشغالاتها المتسارعة، ووسائل التواصل التي قرّبت المسافات ظاهريًا لكنها عمّقت العزلة في الجوهر. ومع ذلك، تبقى ذكريات الراحلين حاضرة تذكّرنا بما كان، وتعيد إلى أذهاننا قيمة العلاقات التي تقوم على المحبة الصادقة والمساندة الحقيقية. فهؤلاء الذين رحلوا تركوا وراءهم أثرًا ممتدًا، لا يزال يضيء الطريق أمام من بقي. وفي نهاية المطاف، لا نملك إلا أن ندعو للذين غيّبهم الموت: اللهم ارحم من كانوا لنا سنداً ورفعة، واغفر لوالدينا، واجعل لهم في جناتك مأوى وقراراً.