مما يتكرر كثيرًا ذكرُ المستشرقين والعلمانيين ومن شايعهم أساميَ عدد ممن عُذِّب أو اضطهد أو قتل في التاريخ الإسلامي بأسباب فكرية، وينسبون هذا النكال أو القتل إلى الدين، مشنعين على من اضطهدهم أو قتلهم؛ واصفين كل أهل التدين بالغلظة وعدم التسامح في أمورٍ يؤكد كما يزعمون مبدأُ حرية الرأي على وجوب التسامح معها كالردة عن الدين أو القول بوحدةٍ الأديان أو الحلول والاتحاد؛ بل لا يرون أن يُلامَ أصحاب هذه الأقوال. وفي هذه الأيام رأينا تغير اللهجة، وأصبح من يُرمَون بعدم التسامح ليس المتدينون بل نوع واحد منهم، وهم كما يُعبر هؤلاء عنهم: المتطرفون دينيًا؛ وكلمة التطرف الديني كلمة غير مُعَرَّفَة يستطيعون الاعتذار عن كل أحد عندما يُخالفهم بأنهم لم يقصدوه، فإذا تكلم السلفي قالوا لا تقصدكم وإذا تكلم الأشعري قالوا مثل ذلك؛ ولهذا نرى هذه التهمة تصدر اليوم عن أناس يُعدون من أهل الدين، أو لنقل من أناس لا يعدون مناوئين للدين، وإن كانوا بمثل هذه المقالات وترديد هذه الأسماء قد يضربون أهل الدين في مقتل عند من يكتفون بقراءة المختصرات ويفرحون بها كالكثير من متفذلكة هذه الأيام الرقمية. وسوف أذكر عددًا ممن ذكروهم مبينًا لمن لا يقرأون من قتلهم وسبب قتلهم ﴿لِيَهلِكَ مَن هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحيى مَن حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَميعٌ عَليمٌ﴾ (الأنفال: 42). فأول أولئك غيلان الدمشقي (106ه) وقد قتله هشام بن عبدالملك وهو أمير المؤمنين ورأس دولة المسلمين، وقد ثبت نفيه للقَدَر أمام الخليفة؛ وهو أي قوله أن الله لم يخلق الشر ولا يريده، وهذا كلام خاطئ؛ إذ إن الله خالق كل شيء كما قال تعالى ﴿اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيءٍ وَكيلٌ﴾ (الزمر: 62) فقد خلق الخير والشر، وعلم أن من عباده من سيعمل الخير ومن عباده من سيعمل الشر، فكتبه عليهم؛ وقد أيد علماء تابعي صحابة رسول الله كلهم فعل الخليفة، وكاتبوه بذلك، وهؤلاء هم أعلم الناس بالإسلام بعد صحابة نبيهم، وليس لأحد أن يقول في الإسلام بعد هؤلاء قولًا يخالفه. وثاني هؤلاء الجعد بن درهم (124ه) وقد قتله خالد بن عبدالله القسري بأمر الخليفة، وذلك أنه أنكر أسماء الله تعالي وأنكر صفاته وجَمَعَ بين الإرجاء والجبر، فقال بالإرجاء حتى قال إن من أقر بالله ولم يطعه كفرعون وإبليس مؤمن؛ وقال بالجبر حين قال إن الإنسان مجبر على أفعاله كالريشة في مهب الريح؛ وهو حقيقةً كما بين الأمير مقولتَه حين قتله قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما؛ وهذا تكذيب للقرآن الكريم؛ ولم يخالف في قتله جميع التابعين إذ ذاك؛ فدلنا إجماعهم أن قتله كان صحيحًا وذلك لشناعة قوله. وثالثهم عبدالله بن المقفع (142ه) وقد قُتِل في حملة أقامها الخليفة المهدي على من اتُهِم بالزندقة، ويقول معاصروه: إنه بدر منه ما يؤكد تهمته، فإن كان قد أُخذ بشبهة فنسأل الله أن يرحمه ويسامح الخليفة المحسن الذي أزعجه تآمر الزنادقة منكري الرسالة والبعث على الدولة، فأقام هذه الحملة عليهم؛ وإن كان قد قُتِل حقًا وليس اشتباهًا، فالواجب علينا الدعاء للخليفة المهدي الذي قمع الزنادقة في ذلك الحين، ولو نجحوا في تآمرهم في وقته لزادت مصائب الافتراق التي نعانيها اليوم مصيبة كبيرة في الدين والدنيا. ولمزيد من المعرفة، فإن ابن المقفع ترجم قبل إسلامه سيرة مزدك، وترجم بعد إسلامه كتاب المدخل إلى المنطق لأرسطو طاليس المعروف بإيساغوجي، وهو أول من أدخل فن المنطق إلى اللغة العربية، وهذه وإن ذُكِرت في محامده فليست في رأيي بمحمدة. ورابعهم الإمام الجليل ذو القدر الرفيع والمكانة العظمى في الإسلام وبين المسلمين، أحمد بن حنبل الشيباني (241ه) ولم يكن المستشرقون، ولا من حذا حذوهم من أبناء المسلمين يذكرونه حين سردهم لمن قُتِلوا أو عذبوا بسبب آرائهم الفكرية، لا هو، ولا أحمد بن نصر الخزاعي (231ه) الذي قَتَله الخليفة الواثق؛ وذلك لكون محنتهما مَحْمَدَةً في تاريخ الفكر السلفي، وسوأةً في تاريخ الفكر المعتزلي التي يرومون سترها؛ وذَكَرَهما حديثًا بعض المخرفين، إما لأنه لا يعرف، وإما رغبة في تشويه تاريخ الإسلام وأهله. وسبب محنة أحمد بن حنبل وقتل ابن نصر: قولهما بكلام الله تعالى ورؤيته عز وجل، كما جاءت به النصوص، ولم يكونا رادين للدين أو زائدين عليه أو ناقصين منه؛ كما أن ما سُمِّي بالمحنة آن ذاك لم يقتصر شره على الإمام أحمد، بل كان شرًا عظيمًا على علماء الدين كُلِّهم سواء منهم من كان بالعراق أو في مصر أو في الشام أو المغرب؛ وقد أورد كثير منهم الباحث فوزي فطاني في بحثه في مركز سلف: أشهر من امتحنوا في مسألة خلق القرآن، ولكنها اشتهرت بالإمام أحمد لصلابة موقفه، وطول فترة عنائه. وكان خلفاء بني العباس قبل المأمون وبعد الواثق، كلهم على ما كان عليه الإمام أحمد، ولهم عقائد مؤلفة بأسمائهم كعقيدة الخليفة القادر، وذلك حتى آخرهم الخليفة المستعصم بالله الذي قتله المغول سنة 656ه وخامسهم الإمام محمد بن جرير الطبري (310ه) صاحب التفسير الذي لم يؤلف مثله، وصاحب أبي كتب التاريخ وأمها، تاريخ الرسل والملوك. وهو كالإمام أحمد وأحمد الخزاعي، لا يكثر المستشرقون من ذكره ولا مَنْ حذا حذوهم من أبناء المسلمين، لأن أذاه -رحمه الله- لم يكن بأيدي الحكام ولا أيدي العلماء؛ وإنما هاجت عليه العامة حين ألّف كتابه اختلاف الفقهاء، ولم يذكر أحمد بن حنبل محتجا بأنه يراه من أهل الحديث لا من أهل الفقه؛ وهي محنة يتعرض لها جميع العلماء وليست خاصة بالإمام الطبري. وللحديث صلة ....