تُعد الدعاية من أهم الأدوات السياسية التي تُستخدم للتأثير في سلوك الأفراد، فهي الأداة الأبرز لكل جماعة تسعى لإقناع الجمهور بفكرةٍ أو موقفٍ معين، وقد استخدمت العديد من الحضارات القديمة أساليب الدعاية على مر العصور، مثل الفراعنة والإغريق والرومان. غير أن المفهوم الحديث للدعاية بدأ يبرز بوضوح في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ويُعد من أشهر التعريفات العلمية للدعاية ما قدمه عالم الاجتماع الأمريكي، هارولد لاسويل، عام 1927م، حيث عرفها بأنها «الجهد المنظّم للتأثير في الرأي العام من أجل توجيه السلوك نحو هدفٍ محدد». من أهم وأشهر الفترات التي مُورِست فيها الدعاية هي فترة الحرب العالمية الثانية، حيث أُنشئت في تلك المرحلة وزارة البروباغندا «الدعاية» في ألمانيا النازية، وهو ما يعكس دور وأهمية الدعاية في تلك الفترة، وعندما نقرأ عن تلك الحقبة، وخصوصًا عن الدعاية آنذاك، من المستحيل ألا يتكرر اسم «جوزيف جوبلز»، إذ يُعد عرّاب الدعاية، وأشهر من مارسها في التاريخ، ويُعتبر جوبلز أول وزير للدعاية في التاريخ. ومن أشهر الإستراتيجيات والأساليب التي كان يمارسها في الدعاية التكرار المستمر للفكرة التي يريد إيصالها للجماهير، ومن أقواله الشهيرة: «اكذب.. اكذب حتى يصدقك الناس»، كما استخدم أحد أشهر الأساليب التي ما زالت تمارسها بعض الحكومات حتى اليوم، وهو توجيه غضب الشارع نحو الخارج، حتى تنسى الجماهير المشكلات الحقيقية في الداخل أو تُتَّهم دول أخرى بالتآمر عليها، فقد كان الشعب الألماني يشعر بالإهانة والظلم بعد معاهدة فرساي، فاستغل هتلر وجوبلز هذه المشاعر لخدمة الأيديولوجية النازية. ويُعد جوبلز من أوائل من استخدموا الفن والسينما والموسيقى في الدعاية؛ إذ وجه بإنتاج أفلام وثائقية، مثل «انتصار الإرادة» و«أولمبيا» لتمجيد الحزب النازي وأيديولوجيته، كما أمر بخفض أسعار أجهزة الراديو لضمان وصول رسائله إلى جميع أفراد الشعب الألماني، وكان ينشر خطابات هتلر عبر مكبرات الصوت العامة. كان جوبلز من أهم وأشهر من استخدموا الدعاية، وقد استغلها لنشر الأفكار المتطرفة، مما انعكس سلبًا على مفهوم الدعاية، إذ ارتبطت لاحقًا بالكذب والخداع. انتهت الحرب العالمية الثانية، واشتعل صراع آخر لا يشبه الصراع السابق؛ فلم تكن هناك أصوات إطلاق النار أو تحليق الطائرات، ومع ذلك لم يكن أقل خطرًا من الحرب العالمية الثانية، وهي الحرب الباردة، في أعقاب الحرب العالمية الثانية نشأ صراع بين القوى الرأسمالية «الولاياتالمتحدةالأمريكية» في غرب العالم، ضد القوى الشيوعية «الاتحاد السوفييتي» في شرق العالم. وكانت حرب أيديولوجيات لا حربًا عسكرية، من ملامح تلك الفترة استخدام الإذاعات العابرة للحدود، مثل «صوت أمريكا» و«راديو موسكو»، كما كانت الأفلام الوثائقية والسينما تلعب دورًا مهمًا؛ إذ كانت السينما الأمريكية مؤثرة، وبرعت في تصوير نفسها على أنها الطرف الخير الذي ينتصر دائمًا، وكانت أبرز أساليب الدعاية في الحرب الباردة هي الفن والموسيقى والسينما. وآخر الحُقَب التي نعيشها اليوم هي حقبة الإنترنت؛ فقد أصبح من السهل إيصال أي رسالة إلى أي شخص في العالم بسرعةٍ عالية، بخلاف ما كان في السابق، حيث كان الأمر يستغرق وقتًا أطول، ومن الأساليب التي تُستخدم اليوم في الدعاية عبر وسائل التواصل الاجتماعي الجيوش الإلكترونية المعروفة باسم الذباب الإلكتروني، وهي مجموعة من الأشخاص يرسلون رسائل مُؤدلجة إلى الجماهير. فعلى سبيل المثال نشاهد اليوم مثالًا واضحًا في الهجوم الكبير من بعض الحسابات المجهولة للتشكيك في مشروعات رؤية 2030 وتشويه صورة المواطن السعودي، ومحاولة إبعاده عن قيمه ومبادئه، وأحد الأساليب الأخرى هو الفيديوهات القصيرة المعروفة ب«الميمز»، وهي عبارة عن مقاطع ساخرة أصبحت اليوم أداة من أدوات الدعاية السياسية، فعلى سبيل المثال، شاهدنا الرئيس الأمريكي، دونالد ترمب، يستخدم الميمز في حملته الانتخابية الأخيرة للسخرية من خصومه الديمقراطيين، توجد العديد من أساليب الدعاية في وسائل التواصل الاجتماعي؛ لذلك من المهم أن تكون هناك دعاية مضادة لحماية المجتمعات من بعض التشوهات الفكرية والأفكار المتطرفة المؤدلجة. إن الدعاية، على اختلاف أشكالها وأساليبها، ستبقى جزءًا مهمًا في العملية الاتصالية والسياسية في كل عصر، فهي ليست مجرد أداة تضليل أو وسيلة للهيمنة كما ارتبطت في الأذهان، بل يمكن أن تكون وسيلة لبناء الوعي المجتمعي، وتعزيز القيم الوطنية إذا أُستخدمت بموضوعية ومسؤولية، وأثبت التاريخ أن غياب الخطاب الواعي والدعاية الإيجابية يفسح المجال أمام التيارات المتطرفة والأفكار المغلوطة لتملأ فراغ الوعي العام. ومن هذا المنطلق، فإن على الدول والمؤسسات الإعلامية أن تدرك أهمية توجيه الرسائل الدعائية في إطار من الشفافية والاتزان، بحيث تقوم بتحصين المجتمعات من محاولات التشويه والتضليل، لا سيما في ظل البيئة الرقمية المفتوحة التي لا تعترف بالحدود الجغرافية. إن القوة الحقيقية في هذا العصر لم تعد في من يمتلك السلاح أو الثروة فقط، بل في من يمتلك القدرة على التأثير في العقول وسلوك المجتمعات؛ ولذلك فإن بناء دعاية مسؤولة وواعية ليس خيارًا بل ضرورة، توازي في أهميتها أدوات الدفاع والأمن؛ لأن معركة الوعي اليوم هي أكثر تعقيدًا وأعمق أثرًا من أي معركة ميدانية.