لم يُفوّت الرئيس الأمريكي دونالد ترمبفرصة إلّا وأبدى فيها رغبته في تحقيق السلام، حتى أنه أعلن في الخامس والعشرين من شهر أغسطس الفائت عن رغبته بدخول الجنة في حال تحقَّق السلام على يديه في أوكرانيا، فيما لم تنفِ المتحدثة باسم البيت الأبيض كارولين ليفيت أمام الصحافيين لاحقاً أنه «كان جاداً» عندما أدلى بهذا التصريح. هذا من دون أن ننسى خطة ترمبللسلام أو «صفقة القرن» الرامية إلى حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، والتي عملت إدارة ترمبعلى إعدادها منذ العام 2017، وكان إعلان القدس عاصمة لإسرائيل، والإعلان عن دولة فلسطينية من دون جيش في الضفة الغربية وقطاع غزة من أبرز ما جاء فيها. وإذ بيَّنت ردّات الفعل الأميركية الإسرائيلية «الإبادية» على «طوفان الأقصى» في فلسطين، بالملموس، أبعادَ هذا السلام المزعوم وزيفِه، فإنها - أي ردّات الفعل هذه - بيَّنت كذلك، وهذا هو الأهم، أن هذا السلام لا يعدو كونه محطة أساسية من محطات الهيمنة على المنطقة بأسرها. فسلام ترمبليس أكثر صدقية من سلام رؤساء الولاياتالمتحدة السابقين، وسياستها الخارجية عموماً التي لطالما كانت موجَّهة من اللوبي الإسرائيلي أو الصهيوني. ففي شهادة شاهد من أهله يَذكر المفكر والفيلسوف الأميركي نعّوم تشومسكي كيف تم اغتيال السيناتور الأميركي وليم فولبرايت (1905 - 1995) معنوياً بسبب مواجهته اللوبي الصهيوني، ومطالبته إسرائيل بالانسحاب من جميع الأراضي العربية التي احتلتها في العام 1967، وانتقاده سياسة الاستيطان الإسرائيلية التي تهدف إلى إقامة إسرائيل الكبرى...إلخ (راجع كتاب الاستياء العالمي - حوارات مع ديفيد بَرسَميان، تر. محمّد جياد الأزرقي، ناشرون، 2020، والذي تتراوح تواريخ الحوارات فيه بين الأعوام 2013 و2017)، وكيف خَلُص فُلبرايت إلى القول: «ليس هناك أمل في أن نتحدى اللوبي اليهودي»، وإن عاد ليؤكد «أن أفعال إسرائيل الإجرامية سوف تؤدي في النهاية إلى انهيارها». هذا من دون أن ننسى، في سياق الدعم السياسي الأميركي المستمر والأبدي لإسرائيل، استخدام أميركا الدائم لحق النقض في الأممالمتحدة لحمايتها، أو دعمها لنظام الأبرتهايد في إسرائيل الذي لا يختلف بحسب تشومسكي عن نظام جنوب أفريقيا العنصري. فمنذ بداية ستينيات القرن الماضي - يقول تشومسكي - «حتى وقتنا الحاضر إذا رفعْتَ اسم»جنوب أفريقيا«ووضعت مكانه»إسرائيل«لوجدت أن الأمر متشابه تماماً» (تشومسكي، ص121) لكن الفارق برأيه، أنه في الحالة الفلسطينية ثمة إمعان في الفصل العنصري وتشريد الفلسطينيين. لعل سلام ترمبيندرج في ما سمّاه برتران بادي (في كتابه L'Art de la paix,2024) «جدلية القوة» التي صنعت تاريخ الدولة الغربية ورسَّخت ثلاث وظائف للنظام الدولي، بغض النظر عن أي اعتبارات أخلاقية: تعزيز هيمنة الأقوى، والحفاظ على توازن غير عنيف بين الدول المتنافسة، وإنهاء الأعمال العدائية في الوقت المناسب، عبر تسوية تفاوضية. بحيث تجسَّد سلام الولاياتالمتحدة لاحقاً في تقاسمها الهيمنة مع الاتحاد السوفياتي، وفي ميزانيات عسكرية غير مسبوقة، وفي سلسلة طويلة من التدخُّلات العسكرية الخارجية، في كوريا، وغواتيمالا (1954 وبين 1967 و1969)، وفي إندونيسيا (1958، من خلال الدعم الجوي لتمرد بيرميستا)، وفي الكونغو (جمهورية الكونغو الديمقراطية، 1964)، وفي فيتنام، ولاوس، وكمبوديا، وغرينادا، وليبيا، ونيكاراغوا، وباناما، والعراق، وأفغانستان، والسودان، ويوغوسلافيا...ثم في هيْمَنة أحادية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي أواخر القرن العشرين، فضلاً عن الجهود التي بذلتها العلوم الاجتماعية الأميركية لبلورة نظرية «الاستقرار الهيمني» التي تصور القوى الكبرى كحامية للمصالح الدولية المشتركة، وكضامنة للاستقرار. بحيث إن التقاء السلام والقوة، جعل من عظمة أميركا (أميركا أوّلاً) الشرط الأساس لسلام العالم. في الخط الموازي، وبناءً على معادلة السلام والقوة هذه، يندرج سلام ترمب الآن في سياقاته الموضوعية المتمثلة بالتوحش النيوليبرالي، بسمته «الرأسمالية السحابية» (بدلاً من الرأسمالية الإنتاجية)، الموسومة في عالمنا الرقمي الراهن، بحسب الاقتصادي اليوناني - الأسترالي يانيس فاروفاكيس، بانتقال استخراج القيمة فيها من الأسواق نحو المنصات الرقمية، مثل فيسبوك وأمازون، وب«إقطاع تكنولوجي» يغدو هو التهديد الأكبر للديمقراطية الاجتماعية، فضلاً عن حاجة الولاياتالمتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط أكثر من أي وقت مضى «للمضي في استخدام الموارد النفطية والغازية كأداة أساسية لإدارة التنافس الاقتصادي المُحتدم كونياً بين الكتل العالمية، التقليدية والناشئة، في وقت ترجِّح كبريات مراكز الأبحاث الدولية أن تبقى الموارد النفطية للمنطقة تشكل، لعقود عدة مقبلة مصدراً أساسياً للطاقة في العالم، على الرغم من المقاربات البيئية العالمية المستجدة ومن التنوع المستمر في مصادر الطاقة البديلة، بما في ذلك الاتجاه المتزايد للاعتماد على الطاقة المتجدّدة» (حوار غير منشور مع الخبير الاقتصادي د. كمال حمدان). ذلك أنّ حاجة الولاياتالمتحدة إلى هذه المصادر لا تنتفي، على الرغم من زيادة إنتاجها للنفط الصخري، لكونه غير مستدام، إلى جانب أكلاف إنتاجه الباهظة التي قد تثقل كاهلها في المدى المنظور. ما لا يقوله ترمب للأمريكيين أضف إلى ذلك أن الهدف الأساسي بالنسبة إلى الإدارة الأميركية في هذا المضمار لا ينحصر في تغطية احتياجاتها من النفط والغاز العربي فقط، بل في استمرار التحكُّم بعملية تسويقه وبيعه عبر شركاتها العملاقة إلى شركائها التاريخيين الأساسيين، كما إلى منافسيها (ولاسيما الصين)، كون هذا التحكُّم يمنحها قوة أكبر في إدارة آليات التنافس المحتدم مع هؤلاء الشركاء والمنافسين، ويسهم بالتالي في إعادة إنتاج التفوق الأميركي على المستوى الاقتصادي العالمي. في هذا السياق تغدو إبادة غزة، وتدمير سوريا، وقبلهما العراق وليبيا، وإعلان نتنياهو الصريح والوقح عن مسؤوليته في تغيير خريطة الشرق الأوسط، وضمناً الحدود الجيوسياسية..، يغدو تسلسل الأحداث والوقائع هذا حلقةً من حلقات تكريس نظام القطب الواحد، وتعبيراً عن صراعٍ محموم للحؤول دون قيام نظام تعدُّد الأقطاب. المسألة إذاً تتجاوز دونالد ترامب، لكونها تندرج في سياق تاريخي محكوم بالتحالف الإمبريالي - الإسرائيلي، وبأطماع وخرائط متغيرة بتغيُّر موازين القوى الدولية، وإن كان ترمب قد أسهم، سواء في ولايته السابقة أم الحالية، في ترجيح البعد العسكري، كما في إحداث الفوضى. في الخامس من أغسطس الفائت، وتحت عنوان «ما لا يقوله ترمب للأمريكيين»، انتقد الصحافي Callum Jones في صحيفة «ذي غارديان» البريطانية تفاخر دونالد ترمب بمزايا سياسته التجارية، ومحاولاته للتستر على السلبيات التي تجرها هذه السياسة على الأميركيين، بدءاً من ارتفاع الأسعار والتباطؤ الاقتصادي. ومن أقواله في هذا الصدد عن ترامب: «نادراً ما تتبع الأفعال الأقوال» لديه/ «ثمة فجوة بين أقواله وأفعاله»، «يجهد في التستر على السلبيات أو في إخفائها»/ «عدم التزامه بوعوده». ويروي عنه أنه بُعيد إعلان الأرقام الشهرية حول التوظيف في الولاياتالمتحدة في 4 أغسطس الفائت، والتي أظهرت تباطؤاً في سوق العمل، بادر ترمب إلى عزل المسؤولة عن الإحصاءات مدّعياً، ومن دون أي دليل، أن الأرقام مزورة؛ لينتهي المقال بعبارة أن «الوعود لا تدفع الفواتير». وفي حوار مع الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي مارسيل غوشيه Marcel Gauchet بعنوان: «لن تربح النيوليبرالية» (مجلة Sciences Humaines - العدد 380 / تموز - يوليو/ آب - أغسطس 2025) أجراه Samuel Lacroix، وجَّه الأخير سؤالاً لغوشيه حول ما إذا كان القادة السلطويون الجدد مثل دونالد ترمبيشكلون تهديداً للديمقراطية كذلك الذي كان يشكله ديكتاتوريو الأمس؟ فأجاب مارسيل غوشيه بالنفي. أما حجته في ذلك فكانت أن القادة الجُدد ليس لديهم الوسائل لتجسيد السلطة التي يدّعونها لكونهم مسكونين بالتناقض الذي يحاولون إيجاد إجابة له: فهُم مُتقلّبو المزاج، وخطيرون، لكنّ القائد الاستبدادي أو الشمولي، كالذي عهدناه، لا يُقدّم نفسه بهذه الطريقة، إذ يجب أن يجسد المُرشد الذي يرغب المرء في الاعتماد عليه بشكل كامل. في حين أن ترمبوالآخرين هم أشخاص «ما بعد حداثيين» يلعبون بالسلطة. وفي هذا الصدد، يتابع غوشيه: «أنا لا أخشى الانحراف الديكتاتوري، بل أخشى تسارع الفوضى». أما عن تفاؤله وتشاؤمه حول الأزمة الراهنة (المتعددة الأوجه: أزمة الديمقراطية.. أزمة النيوليبرالية.. أزمة العالم)، فيجيب غوشيه في الحوار نفسه بأنه لا يرى أي علامة تشير في الوقت الراهن إلى مخرج من الأزمة العميقة التي تورط العالم الديمقراطي فيها، لكن تحليله للأزمة يدفعه إلى التفكير بأنها لا تحتوي على أي أمر لا يمكن علاجه. وأن هناك قابلية للتغلب عليها بحكم طبيعتها؛ فلماذا لا يتم التغلب عليها عاجلاً أم آجلاً كما حصل مع الأزمات السابقة؟ الأرجح هو الاعتقاد بأن ذلك سيحدث، من دون أن نكون قادرين على تحديد متى؟.. وكيف؟! *مؤسسة الفكر العربي * ينشر بالتزامن مع دورية أفق الصادرة مؤسسة الفكر العربي