يُعد الدخول لمقرات العمل بخدمات طبية مهنية ووقائية أحد مفاتيح تسريع برنامج تحول القطاع الصحي، للإسهام في خلق بيئة عمل صحية ذات أثر مزدوج، كما أن الربط بين التأمين الصحي وبيئات العمل يعكس ملامح مرحلة جديدة، فضلًا عن الاستدامة المؤسسية، فالموظف اليوم يستحق بيئة عمل تدعم صحته، في مقابل ارتفاع إنتاجية الجهة بتكاليف أقل.. في بيئات العمل الحديثة، حيث تتقاطع متطلبات الكفاءة والإنتاجية مع معايير الصحة والسلامة، تبرز أهمية إعادة صياغة العلاقة بين قطاع التأمين الصحي وتطور نماذج الرعاية المقدمة داخل الجهات والمؤسسات الوطنية الكبرى، ويأتي ذلك في سياق التحولات الواسعة التي يشهدها النظام الصحي في المملكة تحت مظلة رؤية السعودية 2030 ولا سيما المبادئ الرئيسة لبرنامج تحول القطاع الصحي التي تركز على تعزيز الوقاية، وتحسين جودة الحياة، ورفع كفاءة منظومة الرعاية الشاملة. وفي هذا الإطار، يمكن النظر إلى الاهتمام بصحة العاملين في مواقع العمل بوصفه امتدادًا عمليًا لهذه المبادئ العامة، فتعزيز الوقاية، وتطوير أساليب الرعاية الأولية، وتوسيع نطاق الخدمات الصحية خارج نطاق المستشفيات التقليدية، يمكن أن تجد تطبيقاتها الطبيعية داخل بيئات العمل، سواء عبر الفحوص الوقائية أو الطب المهني أو تعزيز الصحة المؤسسية، وهي فرصة لدمج الرعاية الصحية الوقائية والمهنية في بيئة مؤسسات العمل. من هذا المنطلق، يمكن النظر إلى "عيادة بيئة العمل" كمنصة استراتيجية تلبّي عدّة وظائف متشابكة، لتعزيز القدرة الإنتاجية وسلامة العامل وتحسين جودة الحياة، وتقليص أيام الغياب، وصولاً إلى تعزيز صورة العمل المؤسسي كبيئة جاذبة، فعندما تتكامل خدمات الطب المهني والعلاج الطبيعي والفحوص الوقائية ضمن بيئة العمل، ننتقل إلى دائرة أوسع من التأمين الصحي، وهي إدارة للصحة قبل الحدث. من المهم هنا الإشارة إلى أن التأمين الصحي في المملكة يشهد نموًا ملحوظًا، وبحسب تقرير بعنوان "Saudi Insurance Sector Review 2024- Bupa Arabia" من المتوقع أن تصل قيمة هذا السوق إلى 83 مليار ريال بحلول 2030، مدفوعًا بإصلاحات النظام، الرقمنة، وتوسّع نطاق التغطية التأمينية، وهذا يؤكد أن القطاع بات يستشرف نماذج أكثر قربًا من نمط الصحة الوقائية، والارتباط ببيئات العمل. إن دمج خدمات الرعاية في مقرات العمل يعكس تحوّلاً في النظرة من "الموظّف كمستفيد" إلى "الموظّف كمشارك"، في منظومة الصحة المؤسسية، وهنا تتجلى ثلاثة أبعاد رئيسة، الأولى أن تقديم الخدمات الصحية في بيئة عمل يساعد في الكشف المبكر عن العوامل الصحية، والوقاية من الإصابات المهنية أو الأمراض المزمنة المرتبطة بالجلوس الطويل أو الضغوط الحركية، وهو ما يتقاطع مع توجهات برنامج "جودة الحياة" الذي يسعى إلى خلق بيئات أكثر صحة واستدامة. والبُعد الثاني، يتمثل عندما ترتبط خدمات التأمين أو الرعاية مباشرة بمقر المؤسسة، تتفاعل أكثر مع نظام العمل، وتصبح جزءًا من ثقافة المؤسسة، فالموظف يشعر بأن الرعاية الأقرب إليه، ما يعزز الولاء ويقلّل الحواجز أمام استخدام الخدمة، ويُحسن النتائج الصحية. والبُعد الثالث، عنوانه "اقتصاديات التكامل"، ومن هذا المنظور، فوجود عيادة مهنية أو رعاية موجهة ضمن بيئة العمل قد يقلل من التكاليف على المدى المتوسط، من حيث تكلفة الغياب، الإصابات، العلاج الطارئ، والتحويل إلى المستشفيات الخارجيّة، وتعزيز مستوى الاستخدام الفعّال للرعاية، والتوافق مع خطوات وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في مجال السلامة والصحة المهنية، استنادا إلى "لائحة فحوصات اللياقة المهنية والأمراض غير المعدية" ومشروع "تنظيم العمل في المهن ذات المخاطر العالية"، بما ينعكس على تحسين مستوى الامتثال للمعايير الوطنية والاتفاقيات الدولية ذات الصلة، وتعزيز مكانة المملكة العربية السعودية على خارطة المؤشرات العالمية في مجال السلامة والصحة المهنية. وإذا، وجدت مساحة للاقتراحات لتعزيز إطار "السلامة والصحة المهنية"، فأتصور أن بناء منصة بيانات ترصد الأوضاع الصحية للعاملين -بما يتماشى مع متطلبات الخصوصية والأمن- أمر في غاية الأهمية، على أن تُستخدم في توجيه برامج تدخل استباقية، مثل فحص عوامل الضغط، وإصابات العمل، وأمراض نمط الحياة. في نهاية المطاف، يُعدّ الدخول إلى مقرات العمل بخدمات طبية مهنية ووقائية أحد مفاتيح تسريع برنامج تحول القطاع الصحي، للإسهام في خلق بيئة عمل صحية ذات أثر مزدوج، كما أن الربط بين التأمين الصحي، وبيئات العمل، يعكس ملامح مرحلة جديدة، فضلًا عن الاستدامة المؤسسية، فالموظّف اليوم يستحق بيئة عمل تدعم صحته، في مقابل ارتفاع إنتاجية الجهة بتكاليف أقل.. دمتم بخير.