يتم الإعلان عن انتهاء عملية «العزم المتأصل»، وهي المهمة التي أطلقتها إدارة أوباما وشركاؤها في التحالف الدولي عام 2014 بهدف صد هجوم (داعش) في العراق. والافتراض السائد هو أن جميع القوات الأمريكية المتبقية ستغادر العراق نهائياً بحلول نهاية 2026. ويثير ذلك تساؤلات حول مستقبل العلاقات الثنائية والتهديدات المتبقية التي يشكلها «داعش». وعلى الرغم من الخلافات بشأن دور إيران في العراق وقضايا أخرى، تسعى كل من واشنطنوبغداد إلى تعزيز علاقاتهما، بما في ذلك على الجانب الأمني. لكن يبقى السؤال المطروح: كيف ينبغي ترتيب هذا الجانب في ظل الانسحاب المرتقب؟ بعد انتشار «داعش» في العراق (ثم سوريا) قبل عقد من الزمن، فككت قوات التحالف معظم نفوذه الإقليمي، وإعادة بناء مؤسسات الأمن العراقية، واستعادة قدر من الاستقرار. وبحلول 2017، انتهت العمليات القتالية الكبرى ضد التنظيم، مما دفع التحالف لتحويل تركيزه لمحاربة فلول «داعش». في سبتمبر 2024، أعلنت إدارة بايدن أن عملية «العزم المتأصل» ستنتهي رسميا في العراق في غضون عام. وقد صيغت الخطة على النحو التالي: أولا، إغلاق القواعد العسكرية للتحالف في العراق بحلول سبتمبر 2025؛ ثانيا، الإبقاء على وجود أمريكي جزئي ومنفرد في البلاد على الأقل حتى عام 2026 لدعم العمليات ضد «داعش» في سوريا المجاورة. تواجه بغداد تحديات في تحقيق التوازن. إذ يرى القادة العراقيون أن نهاية عملية «العزم المتأصل» فرصة لاستعادة السيادة «الكاملة»، وتنويع علاقاتهم مع القوى الأجنبية الأخرى، وجذب مزيد من الاستثمارات من الخارج. ومع ذلك، تتزايد صعوبة تحقيق هذه الأهداف بفعل النفوذ الراسخ للجماعات والأفراد المرتبطين بإيران، والمُدرَجة أسماؤهم على القوائم الأمريكية للإرهاب، كما أنهم يشكلون القوة المهيمنة داخل «قوات الحشد الشعبي». أما التحدي الأبرز أمام بغداد، فهو كيفية إعادة تعريف علاقاتها مع الولاياتالمتحدة خارج إطار المعركة ضد «داعش». يميل ترمب إلى خيار الانسحاب الكامل من سوريا- على غرار ما سعى إليه خلال ولايته الأولى- ولذلك قد تحاول الإدارة المضي في هذا الاتجاه. ومع ذلك، فإن خطر عودة «داعش»- لا سيما في سوريا المجاورة- يقلق العديد من المسؤولين الأمريكيين وقد يجعل ترمب يتردد. ومن بين المخاوف الأمريكية الرئيسية الأخرى تنامي نفوذ طهران في بغداد، وهي قضية تعاظمت إلى درجة أن سياسة واشنطن تجاه العراق باتت في كثير من الأحيان امتداداً طبيعياً لسياستها تجاه إيران. ومن المرجح أن تبرز قضية إيران في الانتخابات البرلمانية المقررة في نوفمبر. ويعتقد العديد من المراقبين أن المرشح الأوفر حظاً هو رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، الذي وصل إلى منصبه بدعم كبير من الجماعات الموالية لإيران، لكنه يُنظر إليه اليوم على نطاق واسع باعتباره براغماتياً يميل إلى اعتماد سياسة خارجية أكثر تعددية بدلاً من الارتهان الكامل لإيران. غير أنه إذا خسر السوداني أمام مرشح أكثر قرباً من طهران، فقد يؤدي ذلك إلى توتر أكبر في العلاقات مع الولاياتالمتحدة. أياً كان المسار الذي سيختاره الأمريكيون في العراق، ينبغي أن يكون هدفهم الأسمى تعزيز المصالح الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة هناك. تتجلى القيمة الإستراتيجية للعراق والمكاسب المحتملة بوضوح في قوته العاملة الكبيرة والمتعلمة، وصادراته النفطية اليومية البالغة نحو أربعة ملايين برميل، وهي طاقة متنامية تضعه في المرتبة الثانية داخل «أوبك»، بعد السعودية مباشرة. سيظل التعاون الأمني- بشكل أو بآخر- محورياً في العلاقات الأمريكية- العراقية، حتى لو اقتصر على التحوّط ضد حالة عدم اليقين المستمرة في المنطقة. ومع ذلك، هناك حقيقتان أساسيتان تعقّدان عملية صنع القرار لكل من الولاياتالمتحدةوالعراق في هذه القضية: أولاً، من شبه المستحيل إنهاء المهام العسكرية بشكل حاسم، لأن التهديدات التي أُنشئت لمواجهتها نادراً ما تختفي تماماً، كما يثبت استمرار خطر «داعش» ؛ ثانياً، يدرك القادة العراقيون أن تمكّن الميليشيات الموالية لإيران من توسيع سلطتها ودفع بغداد نحو نموذج «الاستيلاء على الدولة» على غرار التجربة اللبنانية، سيعرض البلاد لمزيد من العزلة الدولية والعقوبات، ويقوض قدرته على جذب الاستثمارات الغربية الحيوية. مع أخذ كل هذه التعقيدات في الاعتبار، تتلخص خيارات الولاياتالمتحدة في ما يلي: الانسحاب الكامل. سيترتب على ذلك سحب القوات الأمريكية الخاضعة للقيادة المشتركة (أي قوات «المادة 10») بالكامل، مما قد يقود إلى انسحاب مواز من سوريا وتقليص البصمة العسكرية الأمريكية الأوسع في الشرق الأوسط. تقليص الوجود الأمريكي مع التركيز على إقليم كردستان: السيناريو الأكثر ترجيحاً يتمثل في الإبقاء على وجود أمريكي أصغر من قوات «المادة 10» داخل العراق، يقتصر على الأدوار الاستشارية ومكافحة الإرهاب، مع الاستمرار في دعم العمليات في سوريا. وتؤدى أربيل بالفعل دور المركز الفعلي للأنشطة العسكرية الأمريكية، مع وجود قواعد راسخة، ودعم كردي ثابت، وعزلة نسبية عن تهديدات الميليشيات المدعومة من إيران التي تهيمن على بقية العراق. ومع ذلك، فإن التحول شمالاً قد يوتر العلاقات مع بغداد، خصوصاً إذا رأى المسؤولون أن واشنطن تسعى إلى تجاوز سلطتهم أو تعزيز استقلالية أكبر لكردستان. دفع التنمية الاقتصادية والابتعاد عن الاعتماد العسكري: في الوقت الذي قد تُقلص فيه واشنطن وجودها العسكري، يمكن أن تقرر الاعتماد بدرجة أكبر على مبادرات الأعمال والاستثمار في الطاقة. وقد أبدى القادة العراقيون رغبة متزايدة في ترسيخ الشراكة عبر فتح آفاق اقتصادية وتنويع مصادر النمو. ومن منظور إستراتيجي، يمكن لهذا النوع من التعاون الاقتصادي العميق أن يتحول من مجرد مكمل للعلاقات الأمنية إلى ركيزة أساسية للاستقرار في حد ذاته. وفي حال تبنت واشنطن السيناريو الأخير، يمكن أن يُنفذ المكون الأمني عبر البعثة العسكرية لحلف «الناتو» (في حال استمرارها)، إلى جانب مكتب التعاون الأمني مع العراق ومكتب الملحق الدفاعي القائمين حالياً. ورغم أن المكتبين الأخيرين يتبعان وزارة الدفاع، فإنهما يخضعان قانوناً لسلطة السفير الأمريكي باعتبارهما جزءاً من عمليات وزارة الخارجية بموجب «المادة 22». ويمكن لمثل هuذا الترتيب أن يوفر على الأقل بعض الوظائف الأمنية الأكثر أهمية للولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك دعم أي وجود عسكري أمريكي متبقى في سوريا. * معهد واشنطن