كنت في إحدى المناسبات الاجتماعية؛ حين التقيت بصديق، ودار بيننا حديثٌ وجدت فيه من الخصوصية ما يستحق التأمل. كان يشكو لي من تسلّط مديره الجديد ومبالغته في انتقاد عمله، فلم أجد في ذلك بادئ الأمر ما يستوقفني، فمعظم الناس لديهم قصص متشابهة مع مديريهم. غير أنّ ما أثار دهشتي أنّ ذلك المدير لم يكن سوى أعزّ أصدقائه، صديقًا ربطته به علاقة متينة لسنوات، حتى إنّ الجميع كان يعدّهما مثالًا للألفة التي يصعب أن تنكسر. لكنّ كلّ ذلك تبدّل فجأة يوم تبوأ الصديق منصب الإدارة، فتحوّل مسار العلاقة من ودّ عميق إلى شدّ وجذب، ومن صحبة أخوية إلى علاقة رسمية جامدة. حكى لي صاحبي أنّه فرح بدايةً بترقية صديقه، وعدّها تكليفًا مستحقًّا لرجل عرفه مخلصًا ومجتهدًا. لكنّ الأيام حملت له مفاجآت غير سارة؛ إذ لاحظ تبدّلًا في معاملة صديقه له: حدّة في الكلام، تشدّد في المتابعة، وربما شيء من التسلّط لم يألفه من قبل. شيئًا فشيئًا بدأ يشكّ: هل هذا هو الصديق الذي كان كالأخ بالأمس القريب؟ ازدادت الفجوة حين أفرط الرئيس الجديد في النقد واللوم، حتى وجد صاحبي نفسه قاب قوسين أو أدنى من الاستقالة. بل إنّه قرّر أن يحرق جسر التواصل الشخصي، مكتفيًا بالتعامل الرسمي عبر المكاتبات والخطابات الباردة. أما أنا فنظرتُ إلى الأمر من زاوية مختلفة. فقد بدأت مسيرتي المهنية في فضاء الأعمال الحرة، ولم أخضع يومًا لإمرة مدير. لكنني، وأنا أنصت إلى صديقي، أدركت أنّ المسألة أعمق من نزاع عابر بين موظف ورئيسه؛ إنها اختبار حقيقي لقيمة الصداقة حين تختلط بالسلطة، وامتحان صعب لمدى قدرة البشر على الفصل بين العاطفة والواجب. إنّ خيوط الصداقة بطبيعتها رقيقة وشفافة، تقوم على الثقة والصراحة والانبساط، فيما تفرض الإدارة قيودًا وحدودًا تستند إلى النظام والانضباط. وحين تجتمع هاتان الطبيعتان في شخصٍ واحد، تظهر المفارقة: كيف يكون الإنسان في وقت واحد صديقًا قريبًا ورئيسًا صارمًا؟ هذا التناقض قد يزرع في النفس شعورًا بالخذلان، أو حتى خيانة ضمنية، وكأنّ الصديق قدّم مصلحته المهنية على حساب العهد غير المكتوب بين الأصدقاء. لكن الإنصاف يقتضي أن ندرك أنّ الرئيس الجديد ليس دائمًا مخطئًا، فهو بدوره يخضع لضغوط المنصب ومسؤولياته. ومن غير المنطقي أن يُطلب منه أن يُدير عمله بميزان العاطفة، أو أن يفرّق بين صديقه وزملائه الآخرين. بل ربما كان مضطرًا إلى التشدد كي لا يتّهم بالمحاباة، فيقسو على صديقه أكثر مما يقسو على غيره، ليثبت للجميع نزاهته وعدالته. وهنا تبرز أهمية وضع الحدود. فالحلّ الأمثل أن يفصل الطرفان بين مجالين: مجال العمل حيث العلاقة تقوم على رئيس وموظف، ومجال الصداقة حيث تبقى المودّة على صفائها بعيدًا عن الحسابات المهنية. وقد جُرّب هذا في مواقف كثيرة، وكان سببًا في استمرار العلاقات وإنقاذها من الذبول. إلى جانب ذلك، يبقى الاحترام المتبادل ركيزة لا غنى عنها. فالصديق الذي يحترم صديقه في منصبه، والموظف الذي يقدّر رئيسه مهما كان تاريخهما، يحفظ لنفسه مكانة رفيعة، ويضمن ألّا يخسر الاثنين معًا: الصديق والرئيس.