الحياة لا تقدم لنا المعلّم دائمًا في هيئة مألوفة. أحيانًا يتخفّى في صورةٍ صديقٍ مثقلٍ باليأس، يتحدث بلسانٍ لا يرى في الوجود سوى عتمته، ويغمر المكان بظلٍ ثقيل. قد نظنّ في البداية أننا أمام عبءٍ يسرق منا بهجة الأيام، لكننا نكتشف مع الوقت أن في هذه الظلال درسًا خفيًا، وأن ما يبدو محبطًا هو في جوهره امتحان يدربنا على الصمود. كان لقائي الأول به في مقهى صغير. جلس أمامي يحرّك فنجانه ببطء كأنما يحرّك معه أوجاع الدنيا كلها، ثم قال بصوتٍ خافتٍ مستسلم: «ما جدوى كل هذا؟ الأيام متشابهة، النجاح وهم، والفرح سراب». كانت كلماته أشبه بضربةٍ على جدار الروح، لكنها في الوقت نفسه أيقظتني. ابتسمت محاولًا أن أقاوم ثقل العبارة وقلت: «لكنه سراب يروي العطش للحظة، ويمنحنا قوة لنواصل الطريق». ضحك ساخرًا وأجاب: «بل يتركنا أكثر عطشًا، وأكثر خيبة». عندها أدركت أنني أمام رجل لا يرى إلا الجانب المظلم من الحياة، وأن صداقتي به ستكون امتحانًا عسيرًا. خرجت من ذلك اللقاء مثقلاً، كأنني أحمل على كتفي غيمة رمادية لا تمطر. ومع ذلك، لم أنقطع عنه. كنت أعود كل مرة، كأن ثمة شيئًا يدفعني للبقاء في تلك الدائرة. ربما كان الفضول، وربما كان نوعًا من التحدي الداخلي، وربما كان الأمر أعمق من ذلك: أنني كنت بحاجةٍ إلى هذا الظل لأتعلم كيف أتمسك بالنور. في ليلةٍ هادئة على شاطئ البحر، ونحن نسير بمحاذاته، قطع صمته الطويل وقال: «انظر... حتى البحر فقد بريقه، أمواجه متعبة، وصوته لم يعد يبعث الطمأنينة». كانت كلماته محاولة أخرى ليغرقني في رؤيته القاتمة. لكنني رفعت عيني نحو الأفق وقلت: «لكن السماء صافية، والقمر ينعكس على الماء... أليس هذا جمالًا يستحق أن يُرى؟» ابتسم باستهزاء وقال: «أنت عنيد، تحاول أن ترى ما لا وجود له». فأجبته بهدوء: «بل أدرّب نفسي على أن أرى ما يُنقذني من الغرق». كان ذلك الحوار مواجهة صامتة بين فلسفتين: هو يرسم الغيوم، وأنا أرسم الشمس. وفي آخر لقاء جمعنا، نظر إليّ بصرامة وقال: «كل ما تبنيه هشّ، سينهار عاجلًا أو آجلًا». كانت كلماته أشبه بحكمٍ نهائي يصدره قاضٍ باسم العدم. لكنني أجبت بثبات: «قد ينهار البناء، لكن الروح التي تعيد تشييده لا تنهار. الأمل ليس في الحجارة التي قد تسقط، بل في اليد التي ترفعها من جديد». سكت طويلًا، وكان صمته هذه المرة مختلفًا، لم يكن صمتًا من استعلاء، بل أقرب إلى تراجعٍ صغير أمام وهج الحقيقة. منذ ذلك اليوم، لم أعد أراه مجرد صديق سلبي يثقل أيامي، بل معلّمًا متخفيًا أهداني درسًا لم أقرأه في كتاب. علّمني أن التفاؤل ليس شعورًا عابرًا، بل موقفا وجوديا نصنعه كل صباح. وأن الأمل ليس رفاهية، بل مقاومة تُبقي الروح واقفة في وجه الانهيار. لقد فهمت أن السلبية ليست دائمًا عدوًا، بل قد تكون المِحكّ الذي يكشف معدن النفس. فمن دون الغيوم لن نعرف قيمة الشمس، ومن دون الصوت المثقل باليأس لن ندرك معنى أن نصرّ على الغناء. هكذا بدا لي أن المعلّم قد يأتي في هيئةٍ غريبة، لا ليطفئ نورك، بل ليذكّرك أن عليك أن تصنعه بيديك. وأن الغيوم مهما تراكمت لا تستطيع أن تحجب شمسًا قررت أن تشرق.