من أبرز ما تمتاز به منطقة جازان أنها أرض التنوع والثراء في نسيجها السكاني الفريد، حيث تحتضن مختلف مكونات المجتمع الذين يعيشون في تناغم منقطع النظير. هذا التنوع أصبح مصدر قوة وغنى، ودليلًا على التسامح والتعايش وقبول الآخر. ومن أعظم ثمار ذلك ترسيخ قيم الوسطية والاعتدال بين أفراد المجتمع. وما يزيد جازان تفرّدًا أنها لا تزدهر بإنسانها فحسب، بل بطبيعتها البكر أيضًا. فهي أرض الخُضرة والخصب، وميدان زراعي مترامي الأطراف، تتناثر فيه الجبال الشاهقة، والسهول المنبسطة، والصحارى الرحبة، وتزينه شواطئ بحرية خلابة. فتبدو كلوحة متكاملة العناصر، اجتمعت فيها ملامح الطبيعة وسماحة الإنسان في بوتقة واحدة عنوانها الجمال، وكأنها مرآة لتاريخها العريق وحضارتها الراسخة. وقد تشرفت بالمشاركة أول من أمس في فعاليات «منتدى فكر» الذي نظمته جامعة جازان تحت رعاية كريمة وحضور لافت من الأمير محمد بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز أمير المنطقة، وبحضور نائبه الأمير ناصر بن محمد بن عبدالله بن جلوي. المنتدى حمل شعار «الوعي الفكري والتحديات المعاصرة»، وشارك فيه نخبة من القيادات والشخصيات العلمية والفكرية، فكان بحق حدثًا مرموقًا وفرصة مواتية لترسيخ قيم الوسطية والاعتدال، وتعميق الانتماء الوطني، وإبراز مكانة وجهود المملكة على المستويين المحلي والدولي. وبوصفي أحد المتحدثين عن هذه القيم النبيلة التي تأصلت في أرض جازان، فقد أحسست أنني «كمن يبيع التمر في أسواق هجر»، إذ أن الوسطية والتسامح جزء أصيل من هوية المنطقة وأهلها. لقد كان أول ما يلفت النظر في هذه الفعالية هو التحضير المتميز والإدارة المنظمة، فقد ظهر المشاركون على قدر المسؤولية وهم يتبارون في إبراز أهمية التصدي للتحديات الفكرية المعاصرة، والتعامل مع التحولات المتسارعة بعقلانية، بما يسهم في تحصين القيم والمعتقدات، ويعزز الاعتزاز بالعادات والتقاليد والمنجزات الوطنية. وقد تناولت المداخلات جوانب متعددة، بدءًا من بناء الفرد والمجتمع وتعزيز الوعي الفكري، مرورًا بدور الإعلام السعودي في مواجهة الفكر المنحرف، ووصولًا إلى أثر الخطاب الديني المعتدل في ترسيخ قيم التسامح والتعايش. وقد اتفق المشاركون على أن تمكين الشباب وتأهيل الطلاب بملكات التفكير السليم هو الضمان الحقيقي لحماية الوطن من الأفكار الضالة والانحرافات الفكرية، وإعداد جيل قادر على حمل راية الوطن نحو آفاق المجد. ومن الإنصاف القول إن هذه القيم لم تكن طارئة على المملكة، بل هي جزء من بنيتها منذ توحيدها على يد الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - الذي وضع أسس الوسطية والاعتدال ونبذ الغلو والتطرف. وسارت الدولة من بعده على النهج ذاته، فواجهت خطابات الكراهية والعنصرية، وكرست جهودها لحماية الشباب من دعاة الانحراف والفكر الضال. ولقد أكد النظام الأساسي للحكم هذه المبادئ في أكثر من مادة؛ إذ نصت المادة (11) على أن المجتمع السعودي يقوم على التلاحم والتكافل، فيما أوجبت المادة (12) تعزيز الوحدة الوطنية ومنع كل ما يؤدي إلى الفتنة والانقسام. وفي هذا العهد الزاهر، تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله - أولت المملكة اهتمامًا بالغًا بتحويل هذه المبادئ إلى برامج عملية من خلال رؤية المملكة 2030، التي جعلت من التسامح والاعتدال ثقافة مؤسسية متجذرة، انعكست في المناهج التعليمية والإعلام والخطاب الديني، وحتى في السياسات الاقتصادية والاجتماعية. ومع كل هذه الجهود، ما تزال بعض الأصوات النشاز تحاول أن تبث سمومها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ناشرة دعوات التفرقة والتمييز، إلا أن الدولة واجهتها كعادتها بحزم وصرامة، إدراكًا لخطورة خطاب الكراهية على وحدة الصف ولحمة الوطن. وهنا أرى أن مسؤولية الإعلام باتت أكبر من أي وقت مضى، لتعزيز الثوابت الوطنية وتحصين المجتمع ضد كل ما يهدد وحدته، وإبراز القيم الحقيقية للدين الحنيف الذي حذّر من العصبية والقبلية ونبذ كل ما يفرق الصف. كما تقع على المؤسسات الدينية والتعليمية مسؤولية متجددة في مواجهة هذه التحديات، وعلى الخطباء والأئمة والدعاة دور أساسي في التحذير من هذا الوباء الفكري المدمّر. إن ما نعتز به كسعوديين هو وحدتنا الوطنية التي تمثل صمام الأمان ومنطلق التنمية والازدهار، وما جازان إلا نموذج حي يجسّد هذه الحقيقة. فهي أرض التنوع الطبيعي والإنساني، وأرض التسامح والتعايش، حيث التنوع يتحول إلى قوة، والاختلاف يصبح مصدر ثراء، والهوية الوطنية تظل المظلة الجامعة التي تحتضن الجميع. وإذا كنا نريد المضي في طريق المجد والنهضة في ظل قيادتنا الرشيدة، فإن السبيل واحد: التمسك بقيمنا، وتعزيز لحمتنا، والمزيد من التلاحم مع ولاة أمرنا، حتى نمضي جميعًا نحو مستقبل أكثر إشراقًا وازدهارًا. ما يزيد جازان تفرّدًا أنها لا تزدهر بإنسانها فحسب، بل بطبيعتها البكر أيضًا.