شهد الشهر الحالي حدثاً مهماً عندما حمّلت سوريا أول شحنة تصدير من النفط الخام منذ سقوط نظام الأسد، وهي في الواقع أول شحنة منذ أكثر من عقد كامل. ورغم أن هذا الإنجاز جاء نتيجة لتخفيف العقوبات الأمريكية والأوروبية، فإن البلد الذي يعاني من أزمة مالية خانقة لا يزال بحاجة ماسة إلى كميات كبيرة من واردات النفط وهو يحاول إعادة تأهيل قطاع الطاقة المتضرر. في ظل هذه الظروف الصعبة، برزت روسيا كمورد رئيس للنفط الرخيص، وهي نفسها تواجه قيوداً غربية على صناعة النفط والغاز لديها. في منطقة شرق البحر المتوسط، يصل هذا النفط إما مباشرة من الموانئ الروسية أو عبر مراكز الشحن الإقليمية حيث ينقل من سفينة إلى أخرى، أو عبر موانئ تعمل كمراكز لإعادة التصدير. سوريا ليست وحيدة في هذا المشهد، فلبنان أيضاً يتصارع مع أزمة مالية مدمرة منذ 2019، وحكومته تتلقى بانتظام شحنات النفط الروسي لتوليد الكهرباء. هذه التدفقات النفطية تثير تساؤلات مهمة: في السوق السورية تتعلق بحجم النفوذ الروسي في عهد ما بعد الأسد، وفي لبنان تسلط الضوء على تعقيدات تجارة النفط الإقليمية، كما ظهر في الصفقة المعقدة بين بيروت وبغداد عام 2021. تروي بيانات رحلة النفط الروسي إلى سوريا قصة مثيرة: عدد من ناقلات النفط الخام المشاركة في تجارة النفط الروسي تبحر نحو شرق البحر المتوسط منذ مطلع هذا العام، لتصل شحناتها في النهاية إلى السواحل السورية. المشهد يكتمل بتفاصيل مذهلة: بينما كانت سوريا تحتفل بتصدير شحنتها الأولى من النفط الخام الثقيل من ميناء طرطوس - 600 ألف برميل حُمّلت على متن الناقلة اليونانية «نيسوس كريستيانا» - كانت ناقلة أخرى تؤدي دوراً مختلفاً تماماً. الناقلة «ساكينا» التي ترفع علم جزر القمر والخاضعة لعقوبات أميركية كانت ترسو في المياه السورية لتفريغ حمولتها من النفط الروسي بعد رحلة سرية جزئياً. تفاصيل هذه الرحلة تكشف عن أساليب التخفي المتقنة: بعد مغادرة ميناء مورمانسك الروسي في 13 أغسطس، أطفأت «ساكينا» نظام التعرف التلقائي في 28 منه لتتجنب الكشف أثناء مرورها قرب جزيرة كريت، مدّعية التوجه إلى بورسعيد في مصر، بحسب تتبع المؤلف للرحلة. شركة TankerTrackers.com، المختصة في تتبع تدفقات النفط إلى سوريا منذ سنوات، أكدت وجود السفينة في المياه السورية اعتباراً من 1 سبتمبر للتفريغ في محطة بانياس للإرساء المفرد. السفينة عادت للظهور على أنظمة التتبع في 5 سبتمبر وهي قبالة السواحل القبرصية. إجمالياً، استوردت سوريا نحو 12 مليون برميل من النفط الخام الروسي هذا العام. ومنذ انهيار نظام الأسد، أبدت عدة دول اهتماماً بالشراكة مع الحكومة السورية الجديدة في مجال الطاقة، وقدمت أخرى مساعدات فورية في الغاز الطبيعي والكهرباء مثل أذربيجان وقطر وتركيا. رغم ذلك، تبقى روسيا المورد الأساسي للنفط الخام بفضل أسعارها المخفضة وقدرتها على توفير إمدادات ثابتة في الوقت الذي تحتاجه سوريا أكثر من أي وقت مضى. الحقيقة المرة هي أن دمشق، وهي تُعيد بناء بلد مدمر بالحرب وسط تحديات أمنية واجتماعية مستمرة، ستحتاج كميات ضخمة من النفط المستورد. من هذا المنظور، شحنة التصدير الأخيرة مجرد قطرة في بحر الاحتياجات ولا ينبغي اعتبارها علامة على التعافي. حجم الصادرات النفطية السورية، وهي متقطعة في أحسن الأحوال ومنافعها يعتمدان على ظروف السوق وقدرة سوريا على الإنتاج المستمر. إنتاج البلاد النفطي اليوم يبلغ نحو 35 ألف برميل يومياً، مقارنة ب350 ألف برميل في 2011. الإنتاج سيبقى متقلباً في بلد بعيد كل البعد عن الاستقرار. من جانبه، ومن 2017 حتى 2021 اعتاد لبنان على استيراد المنتجات النفطية الروسية، لكن هذا تغيّر بعد2021 مع تفاقم الأزمة المالية وغزو روسيا لأوكرانيا. ففي لبنان، تثير هذه التجارة تساؤلات حول طرق الشراء والتسعير، خاصة مع الخصومات الكبيرة التي تقدمها روسيا حالياً. «جو صدّي»، الذي تولى وزارة الطاقة في بيروت مطلع العام وهو مقرّب من حزب «القوات اللبنانية» المسيحي، يواجه مهمة صعبة: معالجة أزمة الطاقة الحادة والفساد المزمن معاً. لأكثر من عقد، كانت الوزارة تحت سيطرة مسؤولين من التيار الوطني الحر (الحليف المسيحي السابق القوي لحزب الله)، مما أدى لفضائح متعددة. في عام 2023، عاقبت الخزانة الأمريكية شخصين لبنانيين لاستخدامهما شركات خاصة لضمان عقود حكومية عبر «عمليات مناقصة عامة غامضة للغاية». الأسوأ أن الوقود المستورد ضمن هذا المخطط كان ملوثاً، مما ألحق أضراراً بمحطات الكهرباء. بالعودة إلى دمشق، فإنها ستواصل على الأرجح استيراد النفط الروسي المخفض السعر. تحتاج واشنطن لمراقبة هذه الممارسة عن كثب لضمان عدم استخدام موسكو لها في بسط نفوذ مفرط على سوريا ما بعد الأسد. روسيا تحتفظ بقاعدتين عسكريتين في سوريا، بما فيها قاعدتها البحرية الإستراتيجية في طرطوس على المتوسط، لذا رغبتها وقدرتها على التأثير على دمشق لن تتبخر بسهولة لمجرد تغيّر النظام. تجارة النفط السورية الأوسع تستحق المراقبة الدقيقة أيضاً، بخاصة هوية الوسطاء في صفقات النفط بين الحكومة وشركات الطاقة. هذا يضمن عدم استفادة الشبكات غير المشروعة من ضعف البلاد الحالي والفساد المتجذر منذ عقود. بعض التجار الإقليميين قد يسعون لاستغلال الوضع الراهن. كثير من الشركات الأجنبية لا تزال تعتبر سوريا بلداً عالي المخاطر، ومع عدم رفع كل العقوبات، قد تتجنب التعامل المباشر معها، ما يزيد الحاجة للوسطاء. واشنطن يجب أن تتيقظ لأي شبكات غير مشروعة تحاول استغلال هذا الوضع، مثل تلك التي عاقبتها سابقاً لتورطها في مخططات طاقة معقدة وفاسدة في لبنان.