في عشرينيات القرن الماضي استعانت مصانع التبغ في أمريكا ب«إدوارد بيرنيز»، أبي العلاقات العامة، لتسويق التدخين للنساء. فابتكر حملة خبيثة غيّرت الصورة الذهنية: استأجر امرأتين من بائعات الهوى لتدخنا علنًا في موكب عيد الفصح، رافعتين سجائرهما تحت شعار «مشاعل الحرية». لم يكلّف بيرنيز بعدها دولارًا واحدًا؛ إذ سارعت الفنادق إلى الترحيب بالمدخنات، وتزاحم الصحفيون على تصويرهن، فانكسر الحاجز الاجتماعي الذي كان يحمي صحة المرأة وكرامتها. ولعل هذه القصة تختصر خطورة الإعلام حين يُترك بلا ضابط؛ فهو لا يكتفي بعكس الواقع، بل قد يصنع واقعًا زائفًا، ويغرس معايير شكلية توهم بالتحضر بينما تقوّض القيم في العمق. وما نراه اليوم من دعاية تُغري بالاستهلاك المفرط، أو محتوى يقدّم المظاهر على الجوهر، أو منصات تصنع صورًا نمطية تُشوّه المجتمع في الخارج، ليس إلا امتدادًا لتلك الخدعة القديمة. غير أنّ للإعلام وجهًا آخر حين يُضبط بالقيم؛ فكما يمكن أن يكون أداة هدم، يستطيع أن يصبح منبر إصلاح. تجلّى ذلك في ترسيخ ثقافة السياحة الداخلية وتعميق الاعتزاز بجمال الوطن، وفي حملة «خذ الخطوة» التي رفعت معدلات التطعيم ضد كورونا، وفي التغطيات المواكبة لمواسم الحج التي أظهرت جهود المملكة في خدمة ضيوف الرحمن، وفي الأفلام الوثائقية التي عرّفت العالم بتنوع البيئة وثراء الثقافة، إضافةً إلى المبادرات التي فتحت المجال أمام الشباب ورواد الأعمال. شواهد حيّة تؤكد أن الإعلام حين يُقاد بالوعي يتحول إلى قوة بناء، لا أداة إفساد. ومن هنا نفهم مغزى قرارات الهيئة العامة لتنظيم الإعلام في السعودية؛ إذ لم تكن استجابة عابرة، بل مشروعًا لبناء وعي جديد. فقد وضعت ضوابط راقية تعيد للإعلام مكانته وتضبط مساره: • منعت تباهي السفهاء بالأموال والمظاهر التي تروّج لثقافة الاستعراض والاستهلاك، وتضع القيمة في المظاهر لا في الإنجاز. • ألزمت بالزيّ المحتشم، باعتباره ذروة الأخلاق، ومفتاح الاحترام؛ فالزي ليس مجرد لباس، بل رسالة بصرية تعكس الهوية وتوازن بين الحداثة والخصوصية. • ألغت مظاهر التعصب القبلي التي لا تليق بدولة مدنية حديثة، ولا تنسجم مع مشروع وطني صهر أبناءه في عقد واحد لا يقدّم فيه الفضة على الذهب. إن أهمية هذه الضوابط تكمن في بعدها التربوي والاجتماعي؛ فهي تحمي الأطفال من الاستغلال الإعلاني الذي يحولهم إلى أدوات ربحية، وتصون العمالة من التنميط أو السخرية، وتفتح الباب أمام إعلام يربّي على المسؤولية لا على السطحية. وبهذا المعنى فهي ليست قيودًا على الحرية، بل ضمانات لئلا تتحول الحرية إلى فوضى تُرهق القيم وتضر المجتمع. وعلى هذا الأساس، صارت فرصة للمتميزين؛ فالمحتوى الأصيل بين أيديهم، يكفي أن يعتزوا بثقافتهم ودينهم ووطنهم ليقدّموا مادة تُلهم الداخل وتحظى باحترام الخارج. وقد أثبتت التجارب العالمية أن الشعوب التي تحافظ على هويتها الثقافية تكسب تقدير الآخرين أكثر من تلك التي تذوب في التقليد. أما صانعو الضوضاء فسرعان ما ينطفئون، بعدما أطفأت هذه الضوابط شرر الكير وأبقت لنا طيب العود. إن جوهر الإعلام لا تحدده وسيلته، بل القيم التي تحرس المضمون، والضوابط التي تُهذّب الصورة. وحين يُبنى على هذا الأساس يصبح الإعلام شريكًا في تحقيق أهداف الوطن الكبرى؛ يعزز الأمن بالوعي، ويقوي التماسك بالخطاب المسؤول، ويدعم النهضة بإبراز المنجزات بصدق لا بزينة زائفة. وعندها يكون أثمن ما ينقله للناس ليس مجرد معلومة عابرة، بل ثقافة أصيلة هي الكنز الذي لا تضاهيه كنوز الأرض.