في قلب الطموحات الكبرى التي ترسمها رؤية السعودية 2030، لا يقتصر السعي والعمل على بناء اقتصاد مزدهر وموقع ريادي عالمي فحسب، بل يتسع ليشمل هدفاً أسمى وأكثر إنسانية يتمثل في تحقيق جودة حياة ورفاهية مستدامة لكل فرد يعيش على أرض هذا الوطن، وتتجاوز الرؤية في طموحاتها المفهوم التقليدي للتنمية، لتضع الإنسان في مركز اهتمامها، وتقدم له خيارات متعددة ومتنوعة في كافة مناحي الحياة، من الترفيه والثقافة والرياضة، إلى فرص التعلم والتطور الشخصي، وصولاً إلى خيارات المعيشة والعمل التي تتناسب مع تطلعات وطموحات كل فرد، إنها رؤية تسعى لبناء مجتمع حيوي، حيث لا يختار الفرد ما يناسبه فحسب، بل يمتلك الوعي والأدوات اللازمة لاتخاذ قرارات تُثري تجربته الإنسانية. وفي سياق التحولات الاجتماعية والاقتصادية المتسارعة التي تشهدها المملكة تبرز بشكل صامت ظواهر سلوكية تستدعي تأملاً عميقاً، وتوصيفاً أكاديمياً وعلمياً دقيقاً وحتى ذلك الحين لنتفق على تسميتها هنا ب"ثقافة الاستهلاك المؤدلج" أو "التبعية الاستهلاكية"، هذه ليست مجرد ممارسات فردية عابرة، بل هي أنماط سلوكية جماعية تتجذر في اللاوعي الجمعي، وتشكّل تحدياً معقداً يتقاطع مع محاور التنمية المستدامة، ويثقل كاهل الأفراد والمجتمع والاقتصاد على حد سواء، ويكمن جوهر المشكلة في الميل عن مبدأ الاستهلاك المبني على الحاجة الفعلية أو القيمة الحقيقية، والتحول نحو استهلاك مدفوع بأبعاد أيديولوجية خفية، تُشكلها روايات وصور مجتمعية وإعلانية، تكرس لدى الفرد قناعة بأن الامتلاك أو محاكاة أنماط معينة من الاستهلاك هو السبيل لتحقيق المكانة الاجتماعية، والسعادة، أو حتى تأكيد الذات. وتتشكل هذه الظاهرة وتتضح في صور متعددة، باتت مألوفة في حياتنا اليومية على سبيل المثال الاستهلاك الرمزي لسلع وخدمات فاخرة، والتفضيل المطلق لعلامة تجارية معينة، أو وجهة سياحية، والإفراط في الإنفاق على الكماليات، وتتولى قيادة هذه الظاهرة وتوجيه الأفكار مجموعات من المؤثرين "المنتفعين" بطبيعة الحال من وراء الترويج لهذه السلوكيات التي أصبح الاستهلاك فيها أداة للتعبير عن الذات ضمن معايير اجتماعية مفروضة، هذه الممارسات وإن بدت ظاهرياً أمراً اختيارياً إلا أنها في الواقع تعكس تغلغلاً أيديولوجيا يُشجع على التماهي مع نموذج استهلاكي بعينه، يعمل كصناعة تحويلية للخيارات والمنتجات من أدوات ومتطلبات نفعية إلى مؤشرات ومعايير للهوية الفردية والاجتماعية. وتتجاوز الآثار المترتبة على هذه الظاهرة البعد الفردي لتُشكل تحديات على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي من خلال إنفاق مبالغ طائلة على سلع وخدمات ذات قيمة مضافة محدودة أو غير ضرورية، مما يُقلص من فرص الادخار والاستثمار في الأصول الإنتاجية التي تُعزز النمو الاقتصادي المستدام، وتفاقم المديونية الاستهلاكية مما يُعرض الأسر لمخاطر مالية، ويُضعف قدرتها على مواجهة الأزمات، والنفقات الطارئة، وتشتيت الانتباه عن الإنتاجية والابتكار، والتأثير على الكفاءة الاقتصادية، أما على الصعيد الاجتماعي فتبرز زيادة الضغوط النفسية على الفرد وجعله تحت وطأة ضغط مستمر لمواكبة أنماط استهلاكية معينة، مما يُولد شعوراً بالقلق، وعدم الرضا، والشعور بالنقص، ويهدد الصحة النفسية للفرد، والتماسك الاجتماعي، وتراجع الحس والذوق العام القائم على الاخذ بمعايير الجودة، والأصالة، أو الملاءمة للظروف الاقتصادية، وتراجع قيم القناعة، والاعتدال، لصالح ثقافة المباهاة، والمفاخرة. وإن مواجهة هذه الظاهرة تتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة، مستمدة ومستلهمة من نماذج في نجاحاتنا الوطنية لمعالجة تحديات مشابهة، كأنموذج "كفاءة" لترشيد استهلاك الطاقة الذي يُعد مثالاً ملهماً لكيفية تحويل سلوك استهلاكي سائد إلى وعي بالترشيد، ومشروع "المسار الرياضي" الذي يسعى لربط السلوك الرياضي بالفوائد الصحية المباشرة، لتغيير نمط وسلوك مجتمع بأكمله نحو الأفضل، كما يمكن الاستفادة من التجارب الفكرية في محاربة الأفكار المتطرفة في رصد وتحليل آليات الأدلجة الاستهلاكية، وفهم رواياتها المتجذرة في اللاوعي الجمعي، وتقديم روايات وسرديات بديلة تُعزز قيم الاعتدال، والرضاء، نحو إنفاق مبرر، وهادف، وانطلاقاً من مبادرة هيئة الإعلام المرئي والمسموع في إلزام صناع المحتوى بتوضيح الإعلانات، وفرض ضوابط على المحتوى التجاري، في خطوة استباقية مواكبة مؤهلة لأن تتطور وتصبح جزءًا من استراتيجية أوسع ل "رفع الذوق العام في الاختيار"، وتستهدف المجتمع بشكل مباشر من خلال نشر محتوى إيجابي يعزز للحياة المتوازنة والإنفاق المدروس، وتقديم برامج توعوية للجمهور تتناول أساليب التسويق الخفية، والفصل بين الحاجات والكماليات، والرغبات، ونشر الوعي اللازم للاستفادة القصوى من هذه الخيارات والفرص الاستثنائية المتاحة. وختاماً فان التحدي الذي تُمثله "ثقافة الاستهلاك المؤدلج" لا يتعلق بالحد من الاستهلاك، بل بتوجيهه نحو مسار أكثر وعياً، وكفاءة، واستدامة، و تمكين الفرد من اختيار ما يناسبه بوعي وإدراك، من خلال مزاحمة الأفكار الأيديولوجية الاستهلاكية التي قد تحوّل وفرة الخيارات إلى عبء، والرفاهية إلى سباق لا ينتهي نحو الامتلاك والمباهاة، والايمان بأن هذا التحول ليس هدفاً اقتصادياً فحسب، بل هو استثمار في رأس المال البشري، وتعزيزُ لجودة الحياة، ورفاهية المجتمع التي تعد مرتكزاً أساسياً في تحقيق تطلعات رؤية 2030.