في حياة الشعوب لحظات تتجاوز حدود الزمن لتصنع التاريخ، وتحوّل مسار الأوطان من التشتت إلى الوحدة، ومن الخوف إلى الطمأنينة، ومن الضعف إلى القوة. ولقد شهدت الجزيرة العربية تلك اللحظة الفارقة حين نهض الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه –، حاملاً رؤية تتخطى رمال الصحراء، وإرادة تصوغ المستقبل من قلب العواصف، ليولد وطن جامع، يرفع راية التوحيد، ويوحّد الأرض والقلوب، ويؤسس لدولة حديثة تستمد روحها من دينها، وتستشرف بعزمها آفاق المستقبل. لقد كانت فكرة وحدة النسيج الاجتماعي والإنساني هاجسًا رئيسًا عند الملك المؤسس، إذ أدرك أن الكيان لا يصبح بنيانًا راسخًا إلا حين تتوحد قلوب المجتمع الذي يظله. فالوطن عنده لم يكن مجرد مساحة جغرافية، بل جسدًا متماسكًا ينهض بالإنسان والمجتمع معًا. ومن هنا جاء قراره التاريخي بجمع المصلين في الحرم المكي خلف إمام واحد، وإلغاء تعدد المقامات، ليعيد إلى الحرمين روحانيتهما الجامعة، ولتجتمع الأمة في محراب واحد خلف إمام واحد. وبهذا الموقف العظيم أكّد الملك المؤسس أن الدولة تُبنى بوحدة الكلمة وتماسك القلوب، لقد كان– طيب الله ثراه –، قائدًا وداعية، ومؤسسًا ومصلحًا، جمع بين هيبة القوة والرحمة، وبين السعي إلى السلم والسلام والاستعداد للدفاع، وقد عبّر عن ذلك بقوله: «إني والله أحب السلم، وأسعى إليه، فإذا بليت صبرت، حتى إذا لم يبق في القوس منزع، وحان وقت الدفاع عن الدين والوطن فعلت»، إنها كلمات تُضيء للأجيال معنى القيادة الحقيقية، حيث تتحد الحكمة مع القوة، وتلتقي الرحمة بالحزم، ليظل الوطن حصنًا منيعًا ودولةً راسخة تستمد قوتها من مبادئها الدينية وثوابتها. فأسّس دعائم الدولة مرتكزًا على القرآن الكريم والسنة النبوية باعتبارهما دستورًا دائمًا ومنهجًا ثابتًا. شيّد الملك المؤسس رؤيته على ثلاث ركائز متينة: توحيد الأرض تحت راية واحدة، وترسيخ خطاب ديني وسطي يقوم على الرحمة والسماحة ويحذر من الغلو والتشدد، وبناء دولة حديثة تنفتح على العصر وتحفظ ثوابتها، فاهتم بالحرمين الشريفين، وأرسى دعائم التنمية، وفتح أبواب الإصلاح، مؤمنًا أن استقرار الإنسان هو الأساس الذي تُبنى عليه الحضارات. ومن رمال الصحراء المتفرقة انطلقت المملكة لتصبح وطنًا آمنًا مستقرًا، ومن العزلة إلى مكانة دولية مرموقة، بهوية راسخة وقدرة على التفاعل مع العالم. لقد اهتم بالمساجد والمرافق، وأطلق مسيرة التنمية العمرانية والاجتماعية، مؤكدًا أن النهضة لا تكتمل إلا بثبات الإنسان واستقراره. فالقيادة الحقيقية تتجاوز مجرد إدارة الحكم، لتصبح مشروعًا حضاريًا متكاملًا يحفظ الأمن، ويغرس الطمأنينة، ويؤسس لشعب متماسك قادر على قيادة المملكة نحو التنمية والنهضة في مختلف المجالات، بما يضمن ركيزة قوية لمستقبلها واستدامة تقدمها. واليوم، ونحن نحتفي بذكراه في اليوم الوطني، يزداد إدراكنا لعظمة تلك الرؤية التي حوّلت الصحراء إلى وطن، والفرقة إلى وحدة، والخوف إلى أمن، والأحلام إلى واقع. لقد كان المؤسس صادق القول والعمل، وأسس نهجًا ثابتًا سار عليه أبناؤه من بعده، حتى أصبحت المملكة بعطائها وأمنها وازدهارها مضرب المثل بين الدول في العالم. إنها قصة توحيد وبناء ومسيرة مستمرة، ملحمة وطنية صنعت أمة، وما زالت تلهم الأجيال وتُنير الطريق لهم نحو وطنهم العظيم.