لم يعد البكاء في عرف المشاهير مجرّد دمعة صادقة تسقط من قلبٍ مثقلٍ بالآلام والهموم، بل أصبح عند كثيرٍ منهم عرضًا مدروسًا تُدار مشاهده بإتقان أمام الكاميرات. دموع تُستدرّ بها العاطفة، وتُغرى بها الجماهير، ثم تُحوَّل إلى مكاسب مالية وعقود دعائية، إنّها دموع لا علاقة لها بالصدق، بل بحسابات دقيقة يعرف أصحابها كيف يجعلون منها «ترندًا» سريع الاشتعال، يدرّ عليهم الشهرة والمال. دموع على المقاس كم من مشهد بكاءٍ رأيناه يتصدّر المنصّات؟! - شاب يجهش بالبكاء لأنه سيفارق بيت أهله عند الزواج، وكأنّها مأساة إنسانية، مع أنّ مجتمعنا اعتاد أن تكون البنت هي من تبكي عند مفارقة بيت أهلها، لا الرجل، لكن المشاهير قُلبت لديهم المعايير!. - آخر يذرف دموعه مدّعيًا أنّه حُرم من رؤية أطفاله، فيحوّل معاناته -إن وُجدت أصلًا- إلى مسرحية مفتوحة لجذب التعاطف والضوء. - وأخرى تبكي لمجرّد مشهد إطلاق سراح شخص غريب عنها من السجن، وكأنّ الدموع أصبحت جزءًا من زينة الشاشة اليومية!. لكنّ المتابع الفطن سرعان ما يكتشف أنّها دموع مصنوعة على المقاس، مشاهد مُكرّرة تشبه التمثيل أكثر مما تشبه الحقيقة. بين البكاء والترف الأدهى من ذلك أنّ هذه الدموع لا تلبث أن تجفّ حتى تلحقها مشاهد أخرى لأصحابها، وهم يركبون سيارات فارهة، أو يُقدّمون هدايا باهظة لزملائهم، بعضها مستأجر ومؤقت فقط لتحقيق مشهد مثير للمتابعة. ويذهبون أبعد من ذلك بشراء بطاقات الصالات التنفيذية بالمطارات من أجل صورة عابرة، يوهمون بها جمهورهم أن حياتهم مترفة وفاخرة، إنها مفارقة صارخة: دموع تُثير الشفقة، يعقبها استعراض ترفٍ يُثير الغبطة، وفي الحالتين يُصنع الوهم بمهارة متقنة. لعبة الأرقام ولا تكتمل المسرحية إلا بشراء المتابعين في منصات التواصل الاجتماعي، لتبدو الحسابات وكأنها جماهيرية جارفة، بينما هي في حقيقتها أرقام مُستعارة لا روح فيها ولا قيمة، إنها لعبة أرقام تخدع المتابعين، وتُغري المعلنين، وتحوّل الوهم إلى سلعة تباع وتشترى. إسفاف وهبوط في القيم الأسوأ من ذلك أنّ هذه المحتويات لم تتوقف عند حدود التزييف، بل انزلقت إلى الإسفاف والهبوط في الأعراف والقيم لدى مجتمع المشاهير. لقد شوّهت صورة الرجولة، وابتذلت مشاعر الأبوة والأمومة، وجرّدت البكاء من قدسيته الإنسانية بوجود الحزن والألم، كما قال الله -عز وجل- عن نبي الله يعقوب: «وابيضت عيناه من الحزن..» –يوسف: 84. لقد تحوّلت القيم النبيلة إلى أدوات تسويق رخيصة، وأصبح التمثيل هو اللغة السائدة، بينما يُترك الجمهور -خاصة الشباب- في مواجهة صور زائفة تُصادر ثقتهم بأنفسهم، وتشوّه وعيهم وتبعدهم عن واقعهم. بين دمعة ودمعة الفرق شاسع بين دمعة صادقة تُترجم ألمًا إنسانيًا عميقًا، ودمعة مصطنعة تُستدرّ بها العواطف وتسوَّق بها المنتجات، الأولى تلامس القلوب وتبقى أثرًا خالدًا في الوجدان، أما الثانية فلا تتجاوز كونها مشهدًا عابرًا يذوب مع انكشاف زيفه، ويترك وراءه شعورًا بالخذلان وفقدان الثقة. لقد تحوّل البكاء عند بعض المشاهير إلى سلعة رخيصة تُدار بعقلية التاجر لا بروح الإنسان، وما لا يُدركه هؤلاء أنّ الزمن كفيل بفضح الزيف، وأن التاريخ يدوّن، وأن الجمهور مهما خُدع لحظةً بدمعة مصطنعة، فلن يخلّد إلا الصدق، ولن يلتفت في النهاية إلا لمن جعل دموعه مرآةً لحقيقته لا أداة للتكسب الرخيص. آثار اجتماعية خطيرة هذه التصرفات من بعض المشاهير -أو كما يُسمّيهم الناس «مشاهير الفلس»- لا تتوقف آثارها عند حدود الشاشة، بل تُلقي بظلالها الثقيلة على المجتمع. فالأسر تُصاب بالإحباط حين يقارن الأبناء والزوجات حياتهم البسيطة بما يُعرض أمامهم من مظاهر زائفة، فقد ينشأ تفكك أسري وشعور بالنقص، وكأنّ السعادة لا تُقاس إلا بما يملكه هؤلاء. كلمة أخيرة لقد تحوّل البكاء عند بعض المشاهير إلى سلعة رخيصة، وصناعة وهمية تهز القيم وتخدع الجمهور. وما أحوجنا اليوم إلى منصات رسمية مسؤولة، تحت رقابة مشددة، لا يُسمح بالنشر إلا عبرها، لتصفية المحتوى السطحي، وكبح جماح هذا الإسفاف.. فالجمهور يستحق محتوى صادقًا، والدموع تستحق أن تبقى مرآة للإنسان لا أداة للتسويق الرخيص.