تمثل واحدة من أعقد المسائل القانونية في العصر الحديث، فهي تمسّ بُعدًا إنسانيًا عميقًا يرتبط بالذاكرة والعاطفة. فلكل إنسان ذاكرة عطرية تستدعي لحظات من الماضي بمجرد المرور برائحة معينة، وهذه الخاصية التي أثبتها علم الأعصاب - حيث ترتبط حاسة الشم بالبصيلة الشمية المسؤولة عن العاطفة والذاكرة - تجعل للعطر وظيفة لا تقل أهمية عن العلامة البصرية أو الصوتية. فإذا كان النظر يميز بين الأشكال والألوان، فإن الشم يميز بين الروائح ويربطها بالمنتجات والخدمات، ما يفتح الباب أمام اعتبار العطر علامة تجارية غير تقليدية تستحق الحماية. لقد تطور نظام الملكية الفكرية تاريخيًا ليكون احتفاءً بقدرة الإنسان على الإبداع وتعبيرًا عن حريته في الخلق والابتكار، وهو الذي أتاح تدفق الاستثمارات وصناعة مجتمعات مزدهرة. إلا أن العطر، رغم مكانته الفنية والإنسانية، ظل عصيًا على الحماية القانونية في كثير من الدول. ما يُحمي اليوم هو العلامة التجارية والعبوة والشكل الخارجي، أما الرائحة ذاتها، بوصفها غير مرئية وصعبة الوصف موضوعيًا، فتظل خارج نطاق الحماية. وهو ما يثير أسئلة فلسفية وقانونية معقدة: كيف يمكن للقاضي أن يحدد التشابه بين عطرين؟ وهل تُعد شهادة خبير في الروائح ذات حجية قانونية كافية؟ إن محاولة وصف الرائحة وصفًا موضوعيًا أشبه بمحاولة ضبط الأذواق الشخصية، وهي بطبيعتها متقلبة وخاضعة لتجارب الفرد وبيئته. تاريخيًا، اختلفت الممارسات القضائية والتشريعية حول العالم. ففي هولندا مثلًا، قضت محكمة في قضية Lancome ضد Kecofa عام 2006 بوجوب حماية عطر Tresor من التقليد، معتبرة العطر عملًا إبداعيًا. في المقابل، رفضت المحاكم الفرنسية الاعتراف بالعطر كعمل فني محمي، وعدّته نتاج خبرة تقنية لا أكثر. أما الولاياتالمتحدةالأمريكية فقد شهدت منذ عام 1990 أول تسجيل لرائحة كعلامة تجارية، عندما سجلت شركة Sumitomo Rubber Co رائحة ورد على إطاراتها. كما نجحت شركة Hasbro في تسجيل رائحة صلصال Play-Doh بعد أن أثبتت وجود ارتباط وثيق بين الرائحة والمنتج في أذهان المستهلكين. هذه الأمثلة تكشف أن حماية العطور تتأرجح بين التشدد والانفتاح تبعًا للنظام القضائي والتشريعي لكل دولة. اتفاقية تريبس، الإطار الأهم لحماية الملكية الفكرية عالميًا، لم تنص صراحة على الرائحة ضمن أمثلة العلامات التجارية، لكنها تركت الباب مفتوحًا أمام الدول الأعضاء للاعتراف بها. وقد استغلت بعض الأنظمة هذه المرونة، إذ سمحت الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي وبعض التشريعات الآسيوية بتسجيل الروائح كعلامات تجارية، وإن تفاوتت الشروط والإجراءات بينها. ففي الاتحاد الأوروبي مثلًا يشترط أن تكون الرائحة قابلة للتعبير بشكل بياني، وهو أمر عسير التحقيق، في حين تركز الولاياتالمتحدة على إثبات ارتباط المستهلكين بالرائحة. في السياق الخليجي، جاء نظام العلامات التجارية لدول مجلس التعاون ليخطو خطوة متقدمة بإجازة تسجيل الرائحة كعلامة تجارية، وهو ما يفتح المجال أمام السعودية لتعزيز موقعها الريادي في هذا المجال. فالهيئة السعودية للملكية الفكرية، مع ما تملكه من طموح تنظيمي ورؤية إستراتيجية متوافقة مع رؤية المملكة 2030، مؤهلة لقيادة ملف حماية الروائح والعطور إقليميًا وربما عالميًا. ومع ازدياد النزعة الاستهلاكية وتنامي دور العلامة التجارية في تمييز المنتجات، يصبح من الضروري إيجاد معايير واضحة وإجراءات دقيقة لتسجيل الروائح وحمايتها، ليس فقط لحماية المبدعين بل أيضًا لضمان الشفافية ومنع اللبس عند المستهلكين. التحدي القانوني هنا لا يقتصر على إثبات الرائحة أو وصفها، بل يتجاوز ذلك إلى تحديد الحدود بين النسخ والاقتباس، وبين الاستلهام والتقليد. قد يساعد التطور التقني في هذا المجال، مثل الاعتماد على الأنف الإلكتروني القادر على تحليل التركيبة الكيميائية للروائح والتفريق بينها، في توفير أدوات علمية يمكن للمشرع والفاحصين الاستناد إليها. لكن السؤال الفلسفي سيظل قائمًا: هل يمكن للقانون أن يحمي ما يتسلل إلى الروح ويعيش في الذاكرة أكثر مما يعيش في الواقع المادي؟ إن مستقبل حماية الملكية الفكرية للعطور مرشح لأن يشهد تحولات جذرية مع اتساع التجارب الدولية، وربما تكون هناك سابقة قضائية أو تشريعية تقود إلى اعتراف عالمي بالرائحة كعنصر محمي. السعودية، بما تملكه من أدوات تشريعية ورغبة في مواكبة التوجهات العالمية، قد تكون في طليعة الدول التي تعيد صياغة مفهوم العلامة التجارية لتشمل ما كان في الماضي خارج التصور القانوني. وهكذا يغدو العطر - هذا الفن الإنساني الخفي - محميًا لا كمنتج مادي فحسب، بل كجزء من هوية ثقافية وتجارية ذات قيمة حضارية واقتصادية في آن واحد.