كثيرًا ما تتردّد على مسامعنا عبارات مثل: «ضحايا الحب» أو «التضحية من أجل العاطفة» أو «التفاني بلا حدود للآخرين». عبارات تبدو للوهلة الأولى مثالية وراقية، لكنها في عمقها قد تحمل بذورًا من الظلم للنفس قبل أن تكون عطاءً للغير. الإسلام علّمنا التوازن في كل شيء. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن لربك عليك حقًا، ولنفسك عليك حقًا، ولأهلك عليك حقًا، فأعطِ كل ذي حق حقه». هذا الحديث الشريف يضع ميزانًا دقيقًا: فلا إفراط ولا تفريط. النفس لها حق أن تُصان من الانكسار والتعب والذوبان في الآخرين، كما أن للأهل والأبناء حقًّا، وللرب جلّ جلاله الحق الأعظم. فمن أين جاءت إذن فكرة أن يكون الإنسان «ضحية» باسم الحب أو التضحية المطلقة للآخرين؟ إن التضحية حين تتحول إلى استنزاف للنفس، أو انكسار دائم لشخصيتك، فهي لا تُرضي الله ولا تُسعد الآخرين. هي تنازل عن إنسانيتك لحساب مشاعر قد لا تجد حتى التقدير من الطرف المقابل. بل إن استمرار هذا النمط من التفكير يجعلنا نعيش دور «الضحية» ونعلّق آمالنا على رضا الآخر، بينما نخسر ذاتنا وكرامتنا وصحتنا النفسية. ومن منظور علم النفس الحديث، فإن الإفراط في التضحية يرتبط بارتفاع معدلات القلق والاكتئاب واضطراب تقدير الذات. الشخص الذي يعتاد تهميش رغباته ومشاعره لصالح الآخرين، يعرّض نفسه لما يُعرف ب«الاحتراق العاطفي»، وهو حالة من الإنهاك النفسي قد تقوده إلى العزلة أو الانكسار الداخلي. إن الإنسان حين ينسى ذاته في دوامة العطاء غير المتوازن، يفقد بالتدريج قدرته على العطاء الحقيقي والصحي. وليس البُعد النفسي وحده ما يتضرر، بل البُعد الاجتماعي أيضًا. فالمجتمعات التي تُشجّع على ثقافة التضحية المطلقة تفرز علاقات غير متوازنة، يقوم فيها طرف بدور «المنقذ» أو «الضحية» بينما يستمر الطرف الآخر في الأخذ بلا حدود. وهكذا تتكرّس أنماط من الاستغلال العاطفي والاجتماعي، تُضعف قيم الشراكة والعدل التي هي أساس العلاقات الإنسانية السليمة. ولكي لا يُساء فهم مقالي، فإنني لا أعني أبدًا برفض التضحية الواجبة لبرّ الوالدين أو الرحمة بالزوجة والأبناء أو الإحسان إلى الناس، فهذا من أصول الدين والأخلاق. لكن المقصود أن يكون كل ذلك بالمعقول، دون أن يتحول الإنسان إلى كائن ممحوّ ينسى نفسه في سبيل الآخرين. التوازن هو كلمة السر: عطاءٌ مع عقل، حبٌّ مع كرامة، تضحيةٌ مع حدود. هذا ما ينسجم مع روح الإسلام، وما يحفظ للنفس إنسانيتها، ويجعل من العلاقات روابط قائمة على الوعي لا على الاستنزاف. فلنربِّ أبناءنا وبناتنا على هذه الحقيقة: أن الحب ليس انصهارًا يذيب الذات، بل شراكة تحفظ الكرامة. وأن العطاء ليس فناءً للنفس، بل قوة تُحيي الآخرين دون أن تُميت صاحبها. وحين نُحسن الموازنة بين حقوقنا وحقوق غيرنا، نصنع مجتمعًا أصحّ، ونفوسًا أقدر على الحب الصادق والعطاء المتزن.