التجربة السعودية مرجع يُحتذى في كيفية بناء دوري قوي القانون الإنجليزي مثال يجب الاحتذاء به المشروع الألماني قاد لتحقيق مونديال 2014 إيجاد معادلة توازن تضمن بقاء البريق العالمي دون أن يخفت الضوء المحلي يشهد دوري روشن للمحترفين تحوّلًا استثنائيًا في المشهد الرياضي بعد أن أصبح منصةً تستقطب أبرز نجوم الكرة العالمية، ففي وقتٍ قصير، تحوّلت الملاعب السعودية إلى مسرحٍ يتابعه العالم، وارتفع مستوى التنافس والإقبال الجماهيري، وأصبحت التجربة السعودية مرجعًا يُحتذى في كيفية بناء دوري قوي يجمع بين الحضور الجماهيري والتأثير الاقتصادي والاحتراف التنظيمي، هذا التطوّر يُعد إحدى ثمار رؤية السعودية 2030، التي جعلت من الرياضة رافدًا تنمويًا واقتصاديًا مؤثرًا، وأعادت تعريف العلاقة بين المتعة والاحتراف والاستثمار، ولا شك أن استقطاب النجوم الأجانب رفع جودة اللعبة، وساهم في إدخال معايير جديدة للانضباط والتكتيك والاحترافية داخل الأندية السعودية. وجود الأسماء العالمية في الدوري ليس ترفًا رياضيًا، بل خطوة إستراتيجية لصقل البيئة التنافسية وتطوير الفكر الكروي المحلي؛ فاللاعب السعودي اليوم يتدرّب ويحتك يوميًا بلاعبين أصحاب تجارب طويلة في الدوريات الكبرى، وهذا الاحتكاك كفيل بأن يختصر سنوات من التعلم داخل الميدان، لكن في المقابل، ومع هذا التدفق الكبير من النجوم، بات الدور المحلي في خطر التراجع، إذ أن فرص المشاركة للاعب السعودي أصبحت أقل اتساعًا، خصوصًا في المراكز التي تُمنح غالبًا للأجانب، ما قد ينعكس على جاهزية المنتخب الوطني الذي يقف أمام محطات تاريخية، أبرزها كأس العالم 2026، وكأس آسيا المقبلة، والاستضافة المرتقبة لكأس العالم 2034، فالمنتخب لا يُبنى على خبرة النجوم الزائرين، بل على دقائق اللعب المحلية التي تُكسب اللاعب الثقة والتجربة والقدرة على اتخاذ القرارات. تجربة إنجلترا.. حين عاد المحلي إلى الواجهة شهد الدوري الإنجليزي الممتاز في منتصف العقد الماضي نقاشًا مشابهًا لما يدور اليوم في السعودية، حين بدأت الأندية الإنجليزية تمتلئ بالنجوم الأجانب، ما دفع رابطة الدوري إلى اعتماد نظام يُلزم كل نادٍ بوجود عدد من اللاعبين الذين نشأوا في الأندية الإنجليزية ضمن قائمته الأساسية، بحيث لا يزيد عدد غير المحليين على 17 لاعبًا من إجمالي 25 هذه الخطوة كانت تهدف إلى حماية قاعدة المواهب الوطنية، وضمان استمرارية تطويرها داخل الأندية بدلاً من تهميشها في ظل الطفرة التعاقدية، ونتج عن هذه السياسة ظهور جيلٍ جديد من المواهب مثل فودين وساكا وديكلان رايس، الذين أصبحوا أعمدة المنتخب الإنجليزي وأعادوا التوازن بين العالمية والهوية. وتُقدّم هذه التجربة درسًا مباشرًا للمشهد السعودي، لا تعارض بين الانفتاح على العالم وصناعة اللاعب المحلي، ما دام النظام يضمن أن تظل هوية الدوري نابعة من ملاعبه لا من خارجه. تجارب ألمانياواليابان.. من الأزمة إلى النموذج في تجارب كروية ناضجة، مثل ألمانياواليابان، اختارت الاتحادات هناك مسارًا مختلفًا وأكثر عمقًا؛ فبعد إخفاق ألمانيا في يورو 2000، أطلق الاتحاد الألماني خطة وطنية لإعادة بناء قاعدة المواهب، أُلزمت جميع أندية الدرجتين الأولى والثانية بإنشاء أكاديميات معتمدة، وربطت تراخيص المشاركة بتقارير تطوير الفئات السنية، وخلال سنوات قليلة، أثمرت الخطة عن جيلٍ جديدٍ قاد ألمانيا إلى التتويج بكأس العالم 2014، وأعادها إلى صدارة المنتخبات العالمية. كان سر النجاح بسيطًا، استثمار طويل المدى في اللاعب المحلي قبل الاستثمار في الأسماء الجاهزة. وفي اليابان، أدرك اتحاد الكرة أن التطور الحقيقي لا يأتي بشراء اللاعبين، بل بصناعتهم، فمنذ تسعينيات القرن الماضي، بدأ العمل على مشروع أكاديميات "J-League" التي تهدف إلى إعداد لاعبين محترفين قادرين على المنافسة العالمية، وبالفعل، باتت اليابان اليوم أحد أكبر مُصدّري المواهب الآسيوية إلى أوروبا، وأصبح الدوري الياباني نموذجًا للتوازن بين الاحتراف التجاري والاستثمار البشري. كلا النموذجين -الألماني والياباني- يُثبت أن الرهان على العنصر المحلي هو أساس الاستدامة، وأن اللاعب الوطني ليس عبئًا على المسيرة الاحترافية، بل هو ركيزتها الأولى. التوازن مفتاح المرحلة المقبلة ليس المطلوب تقليص عدد الأجانب، بل إيجاد معادلة توازن تضمن بقاء البريق العالمي دون أن يخفت الضوء المحلي، فالأجانب يضيفون خبرة وتسويقًا، لكن اللاعب السعودي هو الذي يصنع الاستمرارية والاستقرار، والرهان الحقيقي هو أن نُحوّل هذا الاحتكاك اليومي بالنجوم إلى منصة لتسريع نضوج المواهب السعودية، لا إلى سقفٍ يمنعها من الظهور، وهنا يأتي دور الأندية والاتحاد معًا في وضع برامج واضحة تمنح اللاعبين المحليين فرصًا تدريجية مدروسة، وتربط بين دقائق اللعب في الدوري وأداء المنتخب الوطني، لضمان أن يكون كل هذا الحراك الضخم وسيلةً لصناعة نجم سعودي جديد، لا غايةً بحد ذاتها. ختامًا.. لقد أثبتت السعودية قدرتها على بناء دوري عالمي في وقت قياسي، وأصبحت حديث الإعلام والجماهير حول العالم، لكن الرهان الأكبر ليس في من نُوقّع معه، بل في من نُخرّجه من ملاعبنا؛ فحين يتساوى في الملعب النجم العالمي مع الموهبة السعودية، سنكون قد انتقلنا من مرحلة "استيراد البريق" إلى "صناعة المجد"، وحينها، سيقف العالم احترامًا لتجربةٍ سعودية لا تكتفي بأن تُبهِر، بل تُخرِج أبطالًا يحملون اسم الوطن في المونديالات المقبلة بفخر واقتدار. طلال العضياني - الرياض