أصبحت التكنولوجيا في عصرنا الراهن جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية، بل تحولت إلى لغة العصر وأحد أبرز مظاهر التقدم الحضاري، غير أن حضورها الكثيف في حياة الشباب على وجه الخصوص جعلها تثير جدلاً واسعاً بين كونها جسراً إلى الإبداع والتفوق، أو فخاً يبتلع أوقاتهم ويستنزف طاقاتهم، فالشاب اليوم يجد نفسه أمام شاشة صغيرة تختزل العالم بين يديه، تمنحه فرصة الاطلاع والتعلم، لكنها تستدرجه أيضاً إلى ساعات طويلة من الانغماس في عوالم افتراضية قد تبعده عن ذاته وأهدافه. لقد أفرز الاستخدام المفرط للأجهزة الذكية والشبكات الرقمية أنماطاً جديدة من السلوكيات لدى جيل الشباب، فمنهم من جعلها وسيلةً للترفيه المبالغ فيه عبر الألعاب الإلكترونية ومتابعة الفيديوهات والمنصات الترفيهية، حتى بات بعضهم يضيع أجمل سنوات عمره في متاهات رقمية لا تضيف لرصيده المعرفي أو العملي شيئاً يذكر. خطورة هذا الانغماس أنه يمنح الشاب شعوراً زائفاً بالإنجاز من خلال بعض الألعاب، فيعيش لحظات من المتعة الوقتية سرعان ما تنقضي تاركةً خلفها فراغاً كبيراً وخيبة أمل. غير أن التكنولوجيا فتحت آفاقاً رحبة أمام الشباب الطموح، ومكنتهم من الوصول إلى منصات تعليمية عالمية، ودورات متخصصة في مختلف المجالات، كما أتاحت لهم فرص العمل الحر والابتكار في مجالات التقنية والذكاء الاصطناعي وريادة الأعمال، و شهد العالم نماذج ملهمة لشباب استطاعوا أن يحولوا شغفهم بالتقنية إلى مشاريع ريادية ناجحة. ومع هذه الجوانب المضيئة، فإن الوجه الآخر للتكنولوجيا يظل مقلقاً، حيث أسهمت في اتساع رقعة العديد من الآفات الاجتماعية والثقافية، بدءاً من انتشار المواد الإباحية والمحتويات الهابطة، مروراً ببرامج الترويج للمخدرات وألعاب العنف، وصولاً إلى تعزيز العزلة الاجتماعية وضعف العلاقات الأسرية. هذه التحديات تفرض على الشاب أن يُدرك أن الحرية الرقمية لا تعني الانفلات، بل هي مسؤولية فردية قبل أن تكون توجيهاً اجتماعياً. ومن هنا تبرز مسؤولية الأسرة بصفتها الحصن الأول في مواجهة هذه المخاطر، فهي التي تملك مفاتيح التوجيه والمتابعة، وتقدم لهم بدائل عملية تشجعهم على استثمار التقنية في التعلم وتنمية المهارات، وتنمّي قدرتهم على التمييز بين النافع والضار. ولا يقل عن دور الأسرة أهميةً دور المدرسة والمؤسسات التعليمية والثقافية، فهي مطالبة بدمج التقنية في التعليم بشكل منظم، يُحوّل الأجهزة الذكية من أدوات للعب واللهو إلى وسائل لإثراء التفكير النقدي والإبداعي. كما أن للمجتمع المدني والإعلام مسؤولية كبيرة في نشر الوعي وتسليط الضوء على قصص النجاح التي حققها الشباب عبر استثمار التكنولوجيا بشكل إيجابي، حتى يكونوا قدوة لغيرهم. ليست التكنولوجيا عدواً ينبغي أن نهرب منه، ولا صديقاً يمكن أن نترك له زمام أمورنا دون وعي، إنها أداة كبرى في عصر التحولات، يمكن أن تكون جسراً نحو الإبداع والنجاح، أو فخاً قاتلاً يلتهم العمر ويهدر الطاقات.