كانت الصورة النمطية عن الفقيه ابن رشد أنه معجب بالفلسفة والتراث الأرسطي، ويصنف ضمن قائمة المشائين العرب الذين يسعون للتوفيق بين الدين والفلسفة. وهناك من ينكر فكرة أنه كان خصمًا سياسيًا للفلسفة، ويتبنى سردية المستشرقين حول ابن رشد كونه معجبًا بأرسطو ومحبًا للتراث اليوناني. هذه الصورة النمطية عن ابن رشد تتجاوزه لزعماء سياسيين أكبر كالخليفة العباسي هارون الرشيد والخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف، فمشاريع الترجمة الضخمة للتراث اليوناني في العصر العباسي يعتقد كثيرون أن دافعها هو الإعجاب، وفي ظني مثل الاعتقاد يعكس سطحية وسذاجة ونظرة قاصرة لاهتمامات القادة السياسيين. مشروع ضخم كالترجمة الذي رعاه هارون الرشيد هو مشروع سياسي بامتياز، لم يدرس من زاوية روحية أو لاهوتية بل كظاهرة اجتماعية مرتبطة بالقوة والهيمنة. العرب كانوا يدرسون اليونان باعتبارهم «شعوب تحت الدراسة» أو موضوع للدراسة، والدافع هنا معرفي سلطوي. فهناك أقليات دينية تعيش داخل نسيج المجتمع وما زالت تحمل بقايا معتقدات ذات أصول يونانية. في مقالتنا اليوم سنطرح مشروع نابليون بونابرت لدراسة المجتمعات الشرقية في موسوعته الشهيرة «وصف مصر» وهي نتاج بعثة علمية ضخمة رافقته في حملته على مصر. والموسوعة التي وضعها علماء الحملة الفرنسية من أهم الأعمال التي وثقت أوضاع مصر من جوانب متعددة. رافق نابليون حوالي 160 عالمًا ومهندسًا وفنانًا من مختلف التخصصات، وكانوا من نخبة علماء فرنسا. لم تكن الموسوعة ذات دوافع علمية بحتة كما تبدو على السطح. نابليون كان ينظر للمعرفة كأداة للهيمنة أي كلما زادت معلوماتنا عن شعب ما، زادت القدرة على التحكم فيه وبالتالي زادت القدرة على إخضاعه وتوجيهه. في المقابل كانت شروحات ابن رشد للمنطق الأرسطي والتراث اليوناني عمومًا تصب في الاتجاه ذاته. مشروع ابن رشد العلمي يسعى لرصد الحالة الثقافية في المجتمع بمختلف أطيافه، كيف تفكر الشعوب التي تؤمن بالمعتقدات اليونانية وما جوهر ديانتهم ومن هم زعماؤهم الدينيون، فالمعرفة يستغلها نابليون كما يستغلها الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف وهارون الرشيد بوصفها سلاحًا ناعمًا، فحين تتعرف على معتقدات الناس وأساطيرهم وتاريخهم يمكنك إعادة تأويل تراثهم بطريقة تخدم مصالحك. والمجتمع العربي في العصرين -العباسي والأندلسي- كان يحتضن أقليات دينية مختلفة الجذور والأعراق، والمعرفة المتعمقة بتراثهم وثقافتهم تمنح القائد السياسي القدرة على إدارة التنوع الثقافي والديني وتوفير طريقة مناسبة لاحتواء الصراع الثقافي المحتمل وسط المجتمع. تبنى هارون الرشيد مشروعا علميا ضخما للترجمة بلغ ذروته في عصر المأمون وقد شمل ترجمة أعمال فلاسفة اليونان (أفلاطون/ أرسطو/ جالينوس/ إقليدس) إلى العربية. فالعرب كانوا في موقع قوة حضارية ويتعاملون مع الفلسفة اليونانية بوصفها تراث ديني لأقليات دينية. وبالتالي هم ينظرون للشعوب اليونانية وثقافتها كآخر يمكن تحويله إلى نص أو موضوع قابل للفهم والمعالجة بمعنى إعادة تشكيله داخل منظومة معرفية جديدة. خضع التراث اليوناني لعملية ترجمة وتأويل ضمن مشروع حضاري ضخم يفرضه الأقوى -علميا وعسكريا- وفي عصر الموحدين قام ابن رشد بشرح منطق أرسطو وتوصيفه وتصنيفه وتحليله ضمن إطار يخدم السلطة السياسية, فأهمية أرسطو بالنسبة لابن رشد تكمن في كون أرسطو شخصية دينية مقدسة لدى أقليات دينية تعيش وسط المجتمع الإسلامي ودراسته يمكن أن تكون تعبيرا عن حضارة في أوج مجدها تبحث عن الارتقاء وتخضع المعرفة لأغراض السيطرة. ابن رشد لم يمكن معجبا بأرسطو أو تلميذا له كما يروج لذلك الخطاب الاستشراقي. فالمستشرقون الأوروبيون -بدافع الغرور والغطرسة- يرفضون فكرة أن اليونان كانوا بالنسبة للعرب مجرد "شعوب تحت الدراسة" باعتبار أن اليونان وثقافة اليونان امتداد للثقافة الأوروبية المعاصرة.