لا توجد في تاريخ الحضارة الإسلامية شخصية أشد غموضًا من شخصية «ابن رشد» وعلاقته بالتراث اليوناني زادت من ضبابية صورته، وعجزنا عن تصنيفه داخل ثقافة معينة. علاقة الشعوب المسيحية بابن رشد جعلته يبدو وكأنه ينتمي لثقافة غير عربية، واليهود أسهموا إسهامًا فاعلًا في نقل تراث ابن رشد للقارة الأوروبية. شروحات ابن رشد لتراث أرسطو أسهمت -دون قصد من ابن رشد- في إحياء التراث اليوناني. وعناية الأوروبيين بابن رشد الملخص والشارح والمعلق في حقيقتها عناية بتراث الأسلاف اليونانيين، وعناية الأوروبيين بتراث ابن رشد حجبت الضوء عن صورة ابن رشد الفقيه والقاضي والمسلم. كيف يمكن إعادة تعريف ابن رشد ورسم الصورة الحقيقية لابن رشد بوصفه خصم سياسي للفلسفة اليونانية. فابن رشد لم يكن فيلسوفًا بل خصمًا ناعمًا للفلسفة، ويحمل أيديولوجيا سياسية معادية للفلسفة، وشروحاته للفلسفة ولتراث أرسطو على وجه الخصوص لا تخرج عن دائرة «الأيديولوجيا السياسية» المعادية للفلسفة. شروحاته لتراث اليونان يمكن اعتبارها مشروعًا سياسيًا يصب في هدف سياسي أكبر وهو إدارة التنوع الثقافي في المجتمع العربي الإسلامي. وكون ابن رشد قاضيًا فإن القضاة لعبوا أدوارًا سياسية في تثبيت دعائم الدولة وضمان استقرارها، من خلال تزويد رجالات الدولة وصانعي القرار السياسي بمعلومات تخص معتقدات وثقافات الشعوب التي تعيش وسط نسيج المجتمع الإسلامي، شروحات ابن رشد للتراث اليوناني أشبه بالتقرير العلمي الموجه لمن يهمه الأمر من رجالات الدولة، ولا ننسى أن شروحات أرسطو كانت بتكليف مباشر من الخليفة الموحدي أبو يعقوب يوسف. لا يمكن معرفة حقيقة ابن رشد وموقفه من الفلسفة دون الاطلاع على تاريخ دولة الموحدين وما الشعار السياسي الذي تتبناه. ابن رشد كان قاضيًا عند الموحدين والقضاة جزء من دولتهم، وبالتالي لا يمكن له الخروج عن السياسات التي رسم معالمها وحدد أهدافها الأب الروحي للموحدين محمد بن تومرت. كانت دولة الموحدين وكما يتضح من اسمها ترتكز على مبدأ «التوحيد الخالص» بمعنى أن ابن رشد لم يكن مستقلا في منصبه كقاض بل كان جزءًا من النخبة التي اختارها الخلفاء الموحدون خاصة الخليفة أبو يعقوب يوسف. ابن رشد حظي بعلاقة قوية مع الخليفة الذي قربه وعينه قاضيًا، كما كلفه بشرح كتب أرسطو مما يدل على ثقة الدولة فيه. وهذا التكليف له أبعاد سياسية تصب في مشروع إدارة التنوع الثقافي في المجتمع. فمعتقدات الشعوب اليونانية شائعة ولها أثرها على الوحدة الاجتماعية والاستقرار السياسي وتحتاج لرقابة فكرية كي لا تتحول التعددية الثقافية والدينية إلى صراع مجتمعي. علاقة ابن رشد بالفلسفة اليونانية لا تخرج عن سلطته القضائية المستمدة من الخليفة ولمشروعه العلمي أهداف إستراتيجية، كان ابن رشد أداة مثالية لتحقيقها في مجتمع متنوع دينيًا وثقافيًا (مسلمون، مسيحيون، يهود، مذاهب فقهية وكلامية متعددة) فكانت الترجمة والشروحات أداة رقابة ناعمة وضرورية لفهم هذا التنوع ولكيفية التعامل معه. لذلك يمكن القول إن مشروع ابن رشد نخبوي موجه بالأساس إلى العلماء والنخبة السياسية وليس لعامة الناس.