منذ اللحظة التي رُفعت فيها راية التوحيد على أرض المملكة العربية السعودية، لم تكن قضية فلسطين يومًا بعيدة عن الوجدان، ولا عن القرار السيادي، فقد تجذّرت في عمق الهوية السعودية، لاتصالها الوثيق بالعقيدة والعدالة، لأنها قضية لا تخضع للمساومة، ولا تتبدل بتقلب المصالح أو تغيّر الأزمان. أدرك الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن – طيب الله ثراه – أن المكانة التي خصّ الله بها هذه البلاد، بما تحمله من شرف الحرمين الشريفين ومهوى أفئدة المسلمين، تفرض عليها أن تكون صوتًا للأمة ودرعًا لقضاياها، وفي طليعتها: فلسطين. فمنذ مؤتمر المائدة المستديرة في لندن عام 1935م (1354ه)، اتسم الموقف السعودي بالوضوح والبصيرة، إذ رفض الملك الموحد مشاريع التهويد، وندد بوعد بلفور، مؤكدًا أن القضية ليست مجرد أرض، بل هوية ومصير، وتُرجم هذا الموقف إلى تضحيات ملموسة، حين امتزجت دماء الجنود السعوديين بتراب فلسطين في حرب 1948م (1367ه)، لترسم على أرضها شهادة وفاء لا تُنسى، وتجسيدًا حيًا للتضامن العربي والإسلامي. ورث الملوك من بعده هذا الموقف الثابت، فزار الملك سعود - رحمه الله -، فلسطين مبكرًا، وقدم الدعم السياسي والإنساني للفلسطينيين، أما الملك فيصل- رحمه الله -، فوسّع الإطار العربي إلى البعد الإسلامي، واستنهض الأمة في مواجهة الظلم، وقدم الملك فهد - رحمه الله -، مبادرته الشهيرة للسلام عام 1981م (1401ه)، وحرص على إبقاء فلسطين حاضرة في التعليم والإعلام والعمل الإنساني، ثم جاء الملك عبدالله - رحمه الله -، ليطرح مبادرة السلام العربية في قمة بيروت عام 2002م (1423ه)، داعيًا إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967م (1387ه)، وعاصمتها القدسالشرقية. وقد أكّد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – مرارًا أن القضية الفلسطينية تسكن وجدان المملكة، وأن القدسالشرقية هي العاصمة الشرعية للدولة الفلسطينية، لا تقبل المملكة بشأنها تفاوضًا أو تنازلًا. وجاءت قمة الظهران عام 2018م (1439ه)، التي أطلق عليها – رعاه الله – اسم «قمة القدس»، لتؤكد أن فلسطين ليست قضية طارئة أو ظرفية، بل عهد راسخ ومبدأ لا يُنكث، وامتدادًا لهذا النهج، اتسم موقف ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – بالوضوح والحزم، إذ شدد سموه على أن المملكة لن تُقدم على إقامة علاقات مع إسرائيل ما لم تُحلّ القضية الفلسطينية حلاً عادلًا يؤدي إلى قيام دولة مستقلة ذات سيادة وكرامة. وأكد سموه أن السعودية تقف بحزم في وجه محاولات فرض الأمر الواقع أو تجاوز الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، وتقود من موقعها المؤثر جهودًا دبلوماسية نشطة لدعم حل الدولتين، بما يجسد التزامها بأن فلسطين ستظل في قلب سياساتها، قضية مركزية لا تقبل المساومة. ولم تقتصر جهود المملكة على المواقف السياسية، بل كانت حاضرة في ميدان الدعم المالي والإغاثي والتنموي، فقد أنشأت صناديق لدعم القدس، وشاركت في إعمار ما دمره الاحتلال، وتجاوزت مساعداتها لفلسطين أكثر من خمسة مليار دولار، شملت مشاريع في التعليم والصحة والإيواء والبنية التحتية، إلى جانب حملات شعبية مثل حملة دعم غزة، ونُفذت عبر جسرين جوي وبحري. ففي زمن التحولات الدولية، بقي موقف المملكة ثابتًا لا يتزحزح، مستندًا إلى قيمها الحضارية والإنسانية، التي ترى في فلسطين امتدادًا لهويتها وانتمائها الإسلامي. ففلسطين لم تكن في وجدان المملكة مجرد ملف دبلوماسي، بل قضية دينية وأخلاقية ورسالة عدالة ترفض أن تُطمس تحت ركام المصالح الآنية، وبالثبات ذاته الذي بدأ مع الملك عبدالعزيز، تمضي المملكة في دعم فلسطين دون مواربة، دفاعًا عن الحق وعدالة القضية. وفي عالم تتغير فيه الاصطفافات وتُختبر فيه المبادئ، تذكّر المملكة العالم أن لا سلام عادلًا يمكن أن يُكتب دون إنهاء الاحتلال، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، لأن السلام الذي يُبنى على الظلم ليس إلا استدامةً للمأساة، وهو ما لن تقبله المملكة التي اختارت أن تبقى صوتًا للعدل ودرعًا للحق.