في زاوية من زوايا الإدارات التعليمية، ثمة أوراق جامدة تقرر مصير بشر. أوراق تقول إن اللغة العربية ليست مؤهلة لتُدرَّس في المرحلة الابتدائية، أو أن خريجات «عربي 2» غير مؤهلات لتعليم النحو والإملاء للأطفال، رغم أنهن أمضين أربع سنوات في قاعات جامعية تشرح تفاصيل ذلك الحرف، وتستقصي معانيه وأشكاله وموقعه من الجملة. المفارقة لا تكمن فقط في التناقض، بل في أن اللغة تُهمَّش في بيتها، ويُشكّك في أهلها. خريجات اللغة العربية اليوم، وهن بالآلاف، ينتظرن فرصة للقيام بما أُعددن لأجله: تدريس اللغة العربية، لكن شرط «الأولوية» يقف لهن بالمرصاد، يختار غيرهن، ثم يطلب منهن أن ينتظرن الاحتياج أو يتحولن إلى تخصصات أخرى. أي عبثٍ هذا الذي يجعل خريجة اللغة تُقصى من تدريس القراءة والكتابة، بينما تُسنَد المهام إلى من لم يتخصص فيها؟ أليست اللغة العربية هي المدخل الأول لأي علمٍ آخر؟ كيف نعلّم العلوم والرياضيات والقرآن دون تأسيس لغوي متين؟ ومن الأحق بذلك من خريجي اللغة أنفسهم؟ في خضم هذا التناقض، تتعالى أصوات الخريجات، لا بالصراخ، بل بالحقائق: قرارات «الإسناد» صدرت، لكنها لم تُطبّق. الاحتياج موجود، لكنه لا يُفتح. الوظائف تُسند لمن لا يحمل التخصص، بينما المتخصصات ينتظرن في الطوابير بلا جدوى. هذه ليست مشكلة أفراد، بل مشكلة مجتمع. حين تفقد الجهات المسؤولة الإحساس بأهمية اللغة، فإن كل ما يُبنى بعدها سيكون هشًّا، معلّقًا على جدران لا تفهم ما كُتب عليها. اللغة ليست وظيفة، إنها هوية. وحين نتعامل مع خريجات اللغة كأرقام فائضة عن الحاجة، فإننا لا نُقصيهن فحسب، بل نُقصي اللغة ذاتها، ونحكم عليها بالتراجع في زمنٍ هي أحوج ما تكون فيه للنجاة. المطالبة ليست بالتفضيل، بل بالإنصاف. من اختاروا العربية كتخصص جامعي لم يفعلوا ذلك عبثًا، بل لأنهم آمنوا أن هذه اللغة تستحق، وأن تدريسها رسالة. فلماذا نحاسبهم على إيمانهم؟ ولماذا يتحول التخصص النقي إلى عائق وظيفي؟ من المؤلم أن تعيش اللغة العربية اليوم فجوةً بين التعليم والحياة: تُدرَّس على استحياء، وتُوظَّف بنظام المفاضلة، وتُعامل كأنها تخصص غير ملائم للمستقبل. لكن الحقيقة أن لا مستقبل لأمةٍ تُقصي لغتها، ولا معنى لإصلاح تعليمي يبدأ من الأعلى ويهمل الأساس، والأساس هنا هو اللغة. ولن يُبنى شيء ما لم تُعد للغة مكانتها، ويُمنح خريجوها ما يستحقونه: فرصة عادلة لخدمة وطنهم بلغتهم.