في الرابع والعشرين من مايو 2024، وقف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، إلى جانب المستشار الألماني، أولاف شولتز، في قصر الإليزيه ليعلن: «لم يعد اعترافنا بدولة فلسطين تابو». واستخدم كلمة «تابو» بكل ثقلها الأنثربولوجي الدال على «المحظور المقدس» ليكون بمثابة زلزال سياسي هز أركان الدبلوماسية الأوروبية التقليدية، لكن هذا التصريح لم يكن سوى البداية، فقد أضاف ماكرون بحذر: «إنها مسألة توقيت»، هذه الإضافة كشفت عن تحوّلٍ إستراتيجي في سياسة فرنسا: «إذ لم تعتبر الاعتراف خطًا أحمر، بل خيارًا ممكنًا في اللحظة المناسبة». اعتبر هذا التصريح انعطافة تاريخية في مسارٍ دبلوماسي متصلب منذ عقود، فقبل حرب غزة 2023، كان الاعتراف بفلسطين في الغرب «تابو ثلاثي الأبعاد»: وصاية أمريكية تمنع أي خطوة أحادية، وعقدة «معاداة السامية» التي تحوّل أي نقد للاحتلال إلى اتهام عنصري، وأسطورة «المفاوضات أولاً» التي جعلت الدولة الفلسطينية رهينة موافقة إسرائيل، لكن فرنسا بدأت تفكك هذا الثالوث بعد أحداث أكتوبر 2023، عندما كشفت الحرب فشل «الوصاية الإسرائيلية» على السلام، وصنعت غضبًا أوروبيًا غير مسبوق تجلى في مظاهرات عديدة في باريس. ثم جاءت الضربة القاضية للتابو في مايو 2024، عندما سبقت إسبانيا والنرويج وأيرلندا فرنسا بالاعتراف، محطّمة جدار العزلة الأوروبية، هذا التحرك الجماعي خلق حاجزًا نفسيًا فرنسيًا جديدًا: كيف تُبقي باريس على مكانتها كقاطرة السياسة الأوروبية وهي متخلفة عن الركب؟. وهنا يبرز الدور السعودي بوضوح، فخلال المباحثات السعودية الفرنسية في يونيو 2025، ربطت الرياض عددًا من الصفقات مع فرنسا بالتقدم في الملف الفلسطيني، ليتحول الاعتراف من مسألة مبدئية إلى مسألة مصلحة وطنية فرنسية. كما أن هذا التحول سيحقق لفرنسا أربعة أهداف إستراتيجية متداخلة: استعادة الزعامة الأوروبية من إسبانيا، وكسب ودّ السعودية لتعزيز حصتها في استثمارات «رؤية 2030»، وإخماد غضب الضواحي الفرنسية، حيث أظهر استطلاع «لوموند» أن 72 % من الشباب تحت 35 عامًا يؤيدون الاعتراف، وأخيرًا موازنة نفوذ الدول الإقليمية عبر تقديم نفسها كحليف للعرب. لتنفيذ هذا التحول، اتبعت فرنسا إستراتيجية «التدرج الذكي»، ففي ديسمبر 2024، رفعت مرتبة التمثيل الفلسطيني في باريس إلى «بعثة دبلوماسية كاملة»، ثم صوّتت في مارس 2025 لصالح عضوية فلسطين في الأممالمتحدة، وأخيرًا، أعلنت في يوليو 2025 الاعتراف الكامل قبيل الجمعية العامة. اليوم، بينما تستعد فرنسا لإعلان الاعتراف الرسمي في سبتمبر 2025، فإنها تراهن على خمسة أوراق رابحة: قيادة تحالف أوروبي جديد يضم إيطاليا وبلجيكا، وحجز حصة لشركاتها في إعمار غزة، واستخدام الشرعية الدولية كورقة ضغط على إسرائيل، واحتواء الإسلام السياسي في ضواحيها، وترميم صورتها في العالم العربي بعد عقود من الدعم الفرنسي لإسرائيل. على الأرض، سيكون للاعتراف تأثيرات عملية ملموسة، فالممرات الإغاثية المشتركة ستتجاوز العقبات الإسرائيلية في غزة، والضغط القانوني يمكن أن يتصاعد لوقف الاستيطان في الضفة الغربية، مستندًا إلى قرار مجلس الأمن 2334، أما في المحافل الدولية، فسيحدث تحوّل جوهري: من التعامل مع فلسطين ك«قضية إنسانية» إلى الاعتراف بها ك«دولة ذات سيادة» في أروقة محكمة الجنايات الدولية. هذه اللحظة التاريخية تمثل تتويجًا لسياسة فرنسية تعود جذورها إلى خطاب ديغول الشهير عام 1967، عندما وصف إسرائيل ب«الدولة المحتلة»، لكن الفرق اليوم أن فرنسا لم تعد تقف وحدها، فالسعودية - من خلال دبلوماسيتها الاقتصادية الذكية - قدمت «الغطاء السياسي» الذي جعل كسر التابو ممكنًا، والدرس الأعمق هنا أن المصالح حين تلتقي بالمبادئ، والقوة الناعمة حين تدعمها إرادة سياسية، يصبح المستحيل مجرد تابع للزمن.