لا أحد يستشعر خطورة ظاهرة ما يسمى «القطة» على المجتمع، وكيف تغلغل منطق السوق في صميم علاقاتنا الإنسانية. فثقافة الحياة الاستهلاكية أفرزت شخصية «أبو قطة» أو «محصل القطة» الذي يفاجئك في نهاية كل اجتماع بين أفراد الأسرة أو الأصدقاء بإشعار مالي وجرد حساب مفصل، لا يغادر صغيرة أو كبيرة إلا أحصاها، ثم ينشر بعد ذلك قوائم السداد أمام الملأ، كشكل من الضغط المعنوي الذي يمارسه على الجميع. ودخولنا إلى عالم «أبو قطة» يعني أننا بصدد استعراض مدرسة متكاملة في علم النفس الاجتماعي والتأثير السلوكي. فمحصل القطة ليس مجرد مدقق مالي ومحاسب منصف فحسب بل هو عالم متعمق في النفس البشرية ويعرف من أين تؤكل القلوب قبل الأكتاف. فهو يجمع المال عبر حيل وأساليب نفسية ناعمة ومدروسة وماكرة أحيانا، يجيد مهارة التلاعب النفسي بضحاياه ويجعلك تشعر بالذنب وتأنيب الضمير وبأنك متخاذل، فتدفع مضطرا لاستعادة مكانتك الاجتماعية. محصل القطة يتمتع بحس الإقناع فهو يبيع لك «فكرة الدفع» وكأنها هدية نزلت من السماء، ويقدم لك مفهوم القطة تحت غطاء (تعاون، بر، أخوة، مودة، صلة رحم)، ويغلف الصورة المادية المتطرفة لتحصيل القطة بصورة أخلاقية راقية، فتشعر أن الامتناع يعارض القيم الدينية ويضع سمعتك على المحك، وقد نجح عمليا في تحويل كل العلاقات الاجتماعية إلى علاقات قائمة على الدفع المسبق، وكل اجتماع إنساني مرهون بتمويل مالي، وكأن حياتنا لا تكتمل إلا بالقطة. وهو بذلك قد مهد الطريق إلى ابتكار نظام العضوية وهو «اشتراك خدمات» يدفع على أساس سنوي أو شهري أو أسبوعي، وفي حالات متطرفة يدفع بصورة يومية، وخاص بتمويل كل أعمال الضيافة بين الأقارب والأصدقاء، ودون الاشتراك في نظام العضوية ستجد نفسك منبوذا في المجتمع. فالقطة صارت مثل فاتورة الكهرباء والمياه، تدفع بانتظام كأقساط البنوك. فنحن يا عزيزي نعيش في مجتمع لا يعانق دون دفع فاتورة. وكما أسلفنا، محصل القطة عالم نفس حاذق يجيد التلاعب النفسي بالأفراد، يخلق جوا طبيعيا حول القطة، ويصور لك أن كل أفراد المجموعة موافقون ومساهمون في القطة، فإذا كنت وحدك الممتنع عن المساهمة في القطة، هنا ستشعر تلقائيا أنك الغريب والأناني والبخيل، فتبادر للدفع كي تتماهى مع المجموعة. وطبعا هو يظهر القطة وكأنها صفقة لا تفوت وليست مجرد التزام مادي، والنتيجة أنك تدفع بسرعة وتلحق الركب كي لا تعرقل الصفقة على بقية أفراد المجموعة. أحيانا يلعب «محصل القطة» دور المظلومية ويتظاهر بأنه المظلوم الذي يكافح من أجل الجميع، ولكنه يكافأ بالنكران والتملص من الدفع، وهنا يشعر الجميع بالذنب ويبادرون بالدفع كنوع من المواساة. وأحيانا يمارس طريقة «ابتزاز السمعة» فهو يهدد سمعتك بشكل غير مباشر، كأن يصرح علانية: «الكل تعاون ما شاء الله ودفع القطة ولكن باقي فلان لم يدفع»! وهنا سيشعر الشخص الممتنع عن الدفع بأنه تحت المجهر والعيون تراقبه، فهو الوحيد الذي سيقفل القطة، وعند الامتناع التام فإن محصل القطة سيوزع حصته -غير المدفوعة- على بقية المجموعة، وهنا تظهر مهارة أبو قطة في إدارة الأزمات، فيشعر الجميع أن الدفع يجب أن يتم فورا وأي تأخير سيعرقل المخطط كاملا، ويجعلك تشعر أنك العقبة الوحيدة أمام نجاح المخطط الجماعي. ظاهرة «القطة» من أشد الظواهر الاجتماعية ضررا، ومن أقبح السلوكيات المتفشية بين الأفراد، ويكفي أنها حولت العلاقات الإنسانية إلى علاقات «مدفوعة الأجر»، وعندما يصبح كل لقاء أو اجتماع أو مناسبة مرهونة بمبلغ مالي يوزع على الجميع، فإن العلاقة الإنسانية تفقد معناها وقيمتها وتشبه علاقة العميل بمزود الخدمة. فمحصل القطة تسبب بتفكيك مفهوم الكرم باعتباره مسؤولية أخلاقية تجاه الضيف والقريب، وحولها إلى علاقة تعاقدية. فالاجتماعات البشرية التي يفترض أن تبعث الراحة والسعادة تتحول إلى نقاشات وتلميحات مبطنة حول من دفع ومن لم يدفع، وتتحول إلى تقسيمات وحسابات ومطالبات، ينتج عنها تهرب وتأجيل واعتذارات. ويصبح تفكير الأقارب أو الأصدقاء في اللقاء الذي يفترض أنه تواصل وتراحم، إلى تفكير بتوازن المصاريف وتحليل التكلفة وتعويض العجز.