لفهم هذا الموضوع، يجب أولًا أن نعرف: ما هو الذكاء؟ الذكاء هو القدرة على التعلّم من التجربة، والتكيّف مع المواقف الجديدة، وفهم المفاهيم المجرّدة، واستخدام المعرفة للتفاعل مع البيئة. ويشمل الذكاء: القدرة على التحليل، والتخطيط، وحل المشكلات، وسرعة التصرف، والفهم، والتعلّم، والتفكير المجرّد. هل تنطبق تلك المواصفات على جميع البشر؟ قطعًا، الإجابة: لا. إذًا، فالذكاء غير موجود لديهم بالصورة التي نراها أو نفترضها. والطريقة التي شكّلت هذه النظرة هي بعض مواصفات الذكاء التي ذكرناها سلفًا؛ فهي السبب الرئيس الذي جعل للذكاء وجودًا وتصنيفًا يُميزنا عن غيرنا. فأين الذكاء في البشر الذين لا تنطبق عليهم تلك المواصفات؟ إنه غير موجود، ونحن لا نراه فيهم؛ لأننا لا نجد مواصفات هذا الذكاء تتجلّى عليهم. ولكن، لكي نُسهّل على أنفسنا قراءة الواقع، اخترعنا مصطلحًا سطحيًا اسمه "الغباء"، نُطلقه على كل من لا يمتلكون تلك المواصفات. ما الذي يجعل تلك المواصفات مميّزة عن غيرها؟ الفاعلية والإنتاجية الظاهرة، والتي لها أهداف واضحة، محققة ونافعة، هي ما يمنح تلك المواصفات قيمتها العالية، ويجعل أصحابها يُوصَفون بالأذكياء. رغم أن هؤلاء "الأذكياء" لا يمتلكون صفة الذكاء من متجر ما، بل هي موهبة مكتسبة تطوّرت عبر التجربة. ولو نظرنا إلى الفلّاح الذي يحرث الأرض، فربما لن نجد فيه تلك المواصفات، لكننا سنجد صفات أخرى لا يمتلكها من يُصنَّفون "أذكياء": قوة التحمّل، الصبر، التكيّف مع صعوبات البيئة، وربما حكمة فلسفية تغيب عن عقول بعض المفكّرين. ولا ننسى أن ما يقدّمه الفلّاح من خدمة لا يقلّ أبدًا أهمية عمّا يقدّمه مهندس يبني ناطحة سحاب مضادة للزلازل، بل ربما تكون أهمية الفلّاح أعظم بكثير؛ فهو يقدّم أساسًا تُبنى عليه دورة حياة كاملة: تبدأ من الحشرات، إلى الإنسان، وتنتهي مرة أخرى إلى الأرض لتُكمل دورتها اللامتناهية. ما أحاول إيصاله إليك هو: الذكاء لا وجود له كقيمة مطلقة، بل لكل إنسان ميزة وصفة مهمة جدًا في استمرار الحياة. لا عجب أن شخصًا لا يفهم شيئًا في علوم الحاسوب أو الطب الحديث، لكنه بارع في عزف نوتة موسيقية على آلة الكمان، قد تكون له أهمية كونية تفوق أهمية الطبيب أو المهندس. الخلاصة: لا يوجد شخص أذكى من آخر، ولا يوجد شيء اسمه "الغباء"؛ بل إن الغباء الحقيقي هو أن نسمّي أحدًا "غبيًّا"، ما يوجد فعليًا هو أن لكل إنسان ميزة يتفرّد بها، وعمل يؤديه، يشارك به في استمرار الحياة على الأرض. هذا العمل لا يقلّ أهمية عن أي عملٍ يؤديه باحث جيولوجي يكتشف عنصراً جديداً يستخدمه البشر لصنع قنبلة ليفنوا بها بني جنسهم. فقط، يوجد من هو متفوّق في مجال لا يمكن لغيره التفوّق فيه، كلاعب كرة قدم محترف لا يستطيع عزف البيانو، وعازف ماهر لا يستطيع السباحة كمحترف في مسبح أولمبي. لكلٍّ منّا موهبة أو ميزة يتفوّق فيها على غيره، ولو فهمنا آلية هذه الدورة في الحياة، وأعطينا كل شخص حقّه فيما يتميّز به، لعشنا على كوكب مُبهر، كوكب يتنفّس الإبداع في كلّ ركنٍ من أركانه. لكن مشكلتنا الأزلية أننا لا نمنح المكانة إلا لمن يمتلكون مواهب نادرة أو مربحة في سوق الأسهم. لذلك، أنت لا تحتاج إلى البحث عن مواصفات معيّنة أو اكتساب مهارات لا تحتاجها لكي تُوصَف بالذكاء، ما تحتاجه هو أن تُبدع فيما خُلقت من أجله، وأن تركز عليه. وقتها فقط، ستكون نابغة في مجالك؛ أن تطبخ بإتقان قد يكون أعظم من أن تحلّ معادلة رياضية معقدة، إن كانت موهبتك هناك. هذا الفكر الجديد سيحرّرنا من الطبقية، ومن فكرة أن النجاح حكر على من يمتلكون قدرات "فريدة". الحقيقة أن لكل إنسان دوره الذي لا يمكن الاستغناء عنه.