يقال إن الديناصورات انقرضت لأنها لم تستطع التكيف مع التغيرات البيئية، ولهذا أصبحت رمزاً لجمود الفكر وعدم التطور. لكن المدهش أن «الديناصورات» لا تزال موجودة بيننا بشكل مختلف، تحديداً في بعض الإدارات والقطاعات التي تأبى التغيير، وفي مقدمتها جزء من القطاع الصحي في المملكة. اليوم، ونحن نشهد ثورة تنموية شاملة، غيرت وجه المملكة في الاقتصاد، وقفزات ضوئية في الطاقة، الترفيه، البنية التحتية، والاتصالات، بفضل الرؤية المباركة 2030، لكن من المؤسف أن تجد نفسك عند زيارتك بعد عقدين، وكأن الزمن توقف داخل أروقة بعض مؤسسات القطاع الصحي. الوجوه ذاتها، الكراسي ذاتها، وكأن القطاع الصحي يعيش خارج سياق الزمن، أو كأنه «متحف صحي» تعرض فيه الكراسي المحنطة لا الكفاءات المتجددة! في معظم دول العالم، المناصب القيادية الصحية لا تُحتكر، بل تُتداول كل 4 أو 8 سنوات، لضخ الدماء الجديدة وضمان استمرارية التطوير. أما عندنا، فهناك «أحفوريات إدارية» تمسكت بالمناصب لعقود، حتى أصبح من المستحيل تصور التغيير بدون تغييرهم أولاً. مهما بلغت كفاءة الطبيب الإدارية، بل حتى لو كان يُعد من نوابغ عصره، فإن استمراره لعقود في المنصب ذاته يُعد عائقاً أمام التجديد وتداول الفرص بين الأجيال. فكيف إذا كان الأداء القيادي لهذا الشخص خالياً من أي إنجاز ملموس يُذكر؟ الحقيقة المؤلمة هي أنه لا مخرج من هذا الجمود سوى بتدخل جذري يُقتلع فيه هذا النسيج المتشابك من المصالح من جذوره، حتى لا يُعاد تدويره بوجوه مختلفة أو تُمنح له فرصة تغيير شكله مع بقاء جوهره على حاله. ومع ذلك، لا يمكن إنكار بعض جوانب التقدم في القطاع الصحي، مثل جودة الطبيب السعودي (عالميا)، الذي أثبت كفاءته في الداخل والخارج، ولا بد من ذكر أن القطاع الصحي استفاد من التطورات والثورات التي حصلت في المجالات الأخرى مثل الاستفادة من ثورة الاتصالات والتكنولوجيا التي انعكست إيجاباً على الخدمات الصحية، بفضل الدعم والميزانيات الضخمة. لكن، هل هذا يكفي؟ الإجابة بوضوح: لا. التطوير الحقيقي لا يعتمد فقط على التكنولوجيا، بل على إعادة هيكلة شاملة، يقودها أشخاص قادرون على تحويل الخطط والإستراتيجيات إلى واقع ملموس. وهنا تبرز أهمية التحول إلى المستشفيات الذكيّة، كأحد أهم ركائز تحديث القطاع الصحي في المملكة، خاصة إذا أردنا أن تصل خدماتنا لمستوى عالمي يتماشى مع طموحات الوطن. المستشفيات الذكيّة ضرورة وليست رفاهية! أثناء زياراتي لبعض المرضى الأقارب والأصدقاء في بعض المستشفيات الكبرى، فوجئت برصد أخطاء طبية بدائية لا تليق بمستوى النظام الصحي الوطني، ولا تنسجم مع حجم الطموحات والتطور الذي تشهده المملكة في هذا القطاع. نحن لا نتحدث هنا عن مجرد أخطاء إجرائية محدودة، بل عن ممارسات قد تُفضي إلى مضاعفات خطيرة تهدد سلامة المرضى. والمقلق أن تلك الملاحظات ظهرت خلال زيارات محدودة وقصيرة، ما يطرح تساؤلات جدية حول مدى انتشار هذه الأخطاء على نطاق أوسع داخل المنظومة الصحية. وهذا يدفعنا للتأكيد على أن التحول إلى المستشفيات الذكيّة والبروتوكولات الحديثة لم يعد خياراً بل ضرورة، لما تحققه من تحسين جذري في جودة الرعاية وتقليل الأخطاء الطبية. • الذكاء الاصطناعي في التوثيق الطبي قلل وقت التوثيق بنسبة 20-30% • في الأشعة والتشخيص ارتفعت دقة التشخيص بنسبة تصل إلى 15%، مع تقليل وقت القراءة بنسبة تصل إلى 50%، ما وفر عشرات ملايين الدولارات سنوياً للأنظمة الصحية الكبرى. • إدارة الأسرة الذكية حسّنت دوران الأسرة بنسبة 25-35%، وخفّضت أوقات الانتظار بشكل كبير. • الروبوتات والأنظمة الآلية قللت أعباء العمل على الموظفين بنسبة تصل إلى 25%، ووفرت ملايين الدولارات سنوياً. • الأنظمة الذكية للرصد عن بُعد (IoMT) ساهمت في تقليل المضاعفات الطبية داخل المستشفيات بنسبة 15%، وخفّضت إعادة الإدخال للمستشفيات بنسبة تصل إلى 20%. مع الزيادة السكانية في المملكة وارتفاع متوسط العمر، تزداد الحاجة إلى رفع الطاقة الاستيعابية للمستشفيات مستقبلا، وهنا تلعب التكنولوجيا دوراً محورياً في تعظيم الاستفادة من الموارد المتاحة، عبر: • رفع كفاءة الموظفين وتخفيض الحاجة لأعداد كبيرة لكل سرير. • تقليل أعداد الأخطاء الطبية والمضاعفات التي تستنزف الموارد. • أتمتة الخدمات الروتينية لتحرير الطواقم الطبية للتركيز على رعاية المرضى. • الاعتماد على الاستشارات عن بُعد لتخفيف الضغط على المرافق الصحية. وعلى سبيل المثال، في المستشفيات التقليدية دوليا يبلغ تقريباً متوسط عدد الموظفين لكل سرير حوالي 5.5، بينما يمكن للمستشفيات الذكيّة خفضه إلى 3.5-4 موظفين مع الحفاظ على نفس المستوى بل وتحسينه. إذا أردنا قطاعاً صحياً بحجم طموحاتنا، علينا أن نفتح الأبواب أمام الكفاءات الجديدة، ونضع التكنولوجيا في قلب المنظومة، ونؤمن أن الجودة ليست شعاراً، بل منظومة متكاملة تبدأ من الإدارة وتنتهي بسرير المريض. باختصار: الطريق إلى مستقبل صحي آمن ومتطور يبدأ بالتخلص من الفكر القديم، وتبني المستشفيات الذكيّة كخيار إستراتيجي لا بديل عنه.