ثمة حساسية غريبة بل عجيبة باتت تلازم العقل العربي المعاصر حين يُذكر التراث، وكأن في الأمر استدعاء لأشباح الماضي أو نكوصًا عن المستقبل. تثار هذه الحساسية تحديدًا في الأوساط المثقفة والفكرية، حيث نجد أصواتًا تعلو بحدة كلما طُرحت فكرة التفاعل مع التراث العلمي والفلسفي العربي، وكأن هذا التراث مجرد تكديس فقهي أو سجال عقائدي تجاوزته الحداثة. لكن الحقيقة، وهي ما يغيب عن هذا الصخب، أن هناك مغالطة فكرية جوهرية تُنتج هذا النفور؛ إذ يخلط بين «التراث العلمي والفلسفي»، و«التراث الفقهي أو العقائدي» الذي له مجاله الخاص وسياقاته الزمنية والاجتماعية. فتراثنا العلمي ليس خطبًا منبرية ولا رسائل وعظية، بل صرح معرفي ممتد شارك في بنائه «فلكيون، وأطباء، ورياضيون، وفلاسفة»، أسهموا في إنتاج معرفة بشرية لا تزال أصداؤها تتردد في ضمير العلوم الحديثة. حين ننظر إلى العقل الغربي، لا نجد هذا الجفاء مع التراث. على العكس، ما بعد عصر النهضة وحتى اليوم، لم تتوقف المجتمعات الغربية عن التفاعل العميق مع تراثها العلمي والفلسفي، بما فيه التراث اليوناني والروماني، مرورًا بديكارت وكانط وهيجل، وحتى فلاسفة القرن العشرين. لم يتعاملوا مع إرثهم كعبء، بل كذخيرة عقلية وفكرية تُغذي مشاريعهم المعرفية. لم يتعاملوا مع الماضي كقيد، بل كجذر. أما نحن، فيبدو أن بعضنا قد اختار أن ينزع عن الماضي صفة الفاعلية، وتركه طريحًا في زاوية مظلمة، ثم تساءل ببراءة: لماذا نحن في مؤخرة الركب؟ لقد نسينا أن التاريخ المعرفي لا يُبتلع، بل يُهضم. يُعاد تأمله، يُعاد تأطيره، يُعاد الحوار معه، حتى يُنتج الجديد. والحداثة ليست القطيعة مع التراث، بل إعادة تنظيم العلاقة معه على أسس نقدية خلاقة. التفاعل مع التراث العلمي والفلسفي لا يعني بالضرورة تمجيده أو استعادته كما هو. بل يعني أن نستلهم من مناهجه، من جرأته على التساؤل، من قدرته على بناء منظومات فكرية متماسكة انطلقت من داخل الواقع العربي لا من خارجه. في زمن كان فيه ابن الهيثم يُعيد تعريف الرؤية، وكان الفارابي يُفكر في المدينة الفاضلة، وكان ابن رشد يُترجم أرسطو ويُعيد قراءته بعين عقلانية عربية. نحن لا ندعو إلى البقاء في الماضي، بل إلى فتح باب الحوار معه. إلى أن نعترف أن التقدم لا يولد من العدم، بل من تراكم، ومن تأمل عميق في ما كُتب وقيل، ومن الجرأة على طرح الأسئلة القديمة في ضوء الحاضر، لا لنعيد تدويرها، بل لنتجاوزها. القطيعة مع التراث ليست دليلًا على التقدم، بل على فقدان البوصلة. ومن يظن أن صناعة الفكر تبدأ من الصفر، فهو كمن يهدم منزله ليبني كوخًا بيدين عاريتين في وجه العاصفة. نحن بحاجة إلى مصالحة مع تراثنا، لا لأنها عودة إلى الوراء، بل لأنها الخطوة الأولى في مشوار طويل نحو الأمام. إنكار التراث العلمي والفلسفي لا يُعد مجرد غفلة، بل هو شكل متقدم من الجهل، لكنه جهل «نخبوي». فبينما يجهل العامة أحيانًا لأنهم لم يطلعوا، فإن بعض النخبة تجهل رغم الاطلاع، وترفض رغم المعرفة. وهذا أخطر، لأنه ليس جهلًا في التاريخ، بل أزمة في الإدراك. وقد يكون هذا الإنكار ناتجًا عن عجز في التفاعل مع التراث، أو رد فعل على ما يعدونه إرثًا عقائدياً متشددًا طغى على العقل العربي لعقود. لكن في كلتي الحالتين، النتيجة واحدة: عقل يُقصي إرثه العلمي بدلاً من أن يُعيد تأمله. وإن كانت هذه الحساسية تصدر عن النخبة، فالخطر مضاعف؛ لأن النخبة هم من يُعوّل عليهم حمل مشعل التغيير وبناء الحضارة، وفتح أفق جديد للمعرفة. فإذا أصابهم العمى الاختياري، فمن عساه يضيء الطريق؟