لم تعد خدمة العملاء شأنا يخص الفنادق أو شركات الطيران وحدها، بل أصبحت مقياسا رئيسا للحكم على جودة أي قطاع خدمي، من أصغر كشك قهوة إلى أكبر سلسلة فنادق، ومن محل الحلاقة المحلي إلى كبرى شركات تنظيم المؤتمرات، الجميع اليوم يقاس بما يقدمه من تجربة وليس فقط بما يبيعه من منتج أو خدمة، وهنا تبرز ثقافة خدمة العملاء كأحد أهم المحركات الخفية التي تبني الاقتصاد أو تهدمه دون ضجيج. في أي منشأة خدمية يمثل الموظف خط التماس الأول مع العميل، وهو من يصوغ الانطباع الأول الذي قد لا يمحى، لذلك فإن معرفته بتفاصيل الخدمة التي يقدمها لم تعد خيارا، بل شرطا للبقاء في سوق متحول وسريع التقييم، العميل اليوم لا ينتظر كثيرا، ولا يسامح بسهولة، ومواقع التقييم الاجتماعي أصبحت أشد من الرقابة الرسمية. فموظف لا يعرف كيف يشرح ميزة بسيطة أو يعالج شكوى بأسلوب راق، يضر بالعلامة التجارية أكثر مما تنفعه أفضل الحملات التسويقية. والمظهر الخارجي للموظف، مهما بدا تفصيلاً شكليا، يحمل دلالات عميقة عن انضباط المؤسسة واحترامها لعملائها، الزي النظيف، المرتب، والموحد يعكس بيئة منظمة، في حين أن المظهر غير المهني يشير إلى فوضى داخلية وعدم احترام للعميل. بينت دراسة أجرتها جامعة كورنيل على أكثر من450 مؤسسة خدمية أن الانطباع البصري للموظف كان العامل الأول في تقييم الزبائن للمنشأة بنسبة تجاوزت 60%، قبل جودة المنتج أو السعر. لكن التغيير الحقيقي يبدأ من أصحاب العمل، فهم من يصنعون بيئة العمل وثقافتها. والمشكلة الأكبر أن كثيرا من رواد الأعمال في القطاعات الخدمية ما زالوا يرون أن خدمة العملاء مجرد تحية وابتسامة، وليس فلسفة متكاملة تبدأ من التدريب ولا تنتهي بالتقييم. تصحيح هذه الثقافة يتطلب سياسات حكومية واضحة: تصنيف المنشآت بناء على معايير تجربة العميل، ربط الدعم بالتحسينات الملموسة في التدريب والمظهر والبيئة الداخلية، تماما كما فعلت دول مثل سنغافورة وأستراليا والنرويج، حيث أصبحت ثقافة الخدمة مدخلا للتميز وليس عبئا تشغيليا. ولا يمكن المطالبة بأداء عال من العامل إذا كانت بيئة العمل مستنزفة، والسكن غير لائق، والغذاء رديء، والصحة النفسية مهملة، لقد أثبتت تجربة ألمانيا في تحسين ظروف السكن لعمال قطاع المطاعم أن الإنتاجية ارتفعت بنسبة 33% خلال أقل من عام، وأن معدلات رضا الزبائن ارتفعت معها دون تغييرات في قوائم الطعام أو الأسعار، لأن العامل المطمئن يقدم خدمة بضمير حي ورضا داخلي، لا بضغط ولا بتذمر. وعلى مستوى الدول، تمثل تجربة كوريا الجنوبية نموذجا ملهما، إذ خضعت قطاعات مثل توصيل الطلبات وخدمات التنظيف لمعايير واضحة في التعامل مع العميل، والتدريب الإلزامي، ولباس الموظف، ما عزز من ثقة المواطن والسائح على حد سواء، وجعل من الخدمة مهنة محترمة لا يُنظر لها بتعالٍ، وهذا ما نحتاجه في منطقتنا العربية عمومًا. نحن أمام لحظة فارقة، فالمجتمعات التي تنشد تنويع اقتصادها، وجعل القطاع الخدمي جزءا أساسيا من الناتج المحلي، لا يمكنها أن تفعل ذلك بمعايير خدمة ضعيفة، ولا بعقلية اختزالية ترى العامل مجرد منفذ، والسائح مجرد محفظة، بل لا بد من ترسيخ ثقافة جديدة ترى في كل تفاعل مع الزبون فرصة لخلق قيمة مستدامة وسمعة لا تشترى. وحين يتحول الموظف البسيط إلى سفير لثقافة الخدمة، وصاحب العمل إلى قائد في خلق بيئة احترام وتدريب واحتراف، حينها فقط يمكننا أن نقول إننا ننافس، لا نكرر، ونبني، لا نستهلك.