وزير الدفاع الأمريكي يؤكد «أدركنا من الصراع الأوكراني أن طبيعة الحروب تتغير بسرعة!». وأضاف الوزير: «نحن نتعلم دروسا من الصراع الأوكراني». وقال، في تصريح لافت يعكس حجم التحول الجذري في مفهوم الحروب الحديثة، إن الصراع الأوكراني أظهر بما لا يدع مجالًا للشك أن طبيعة الحروب تتغير بسرعة غير مسبوقة. هذه ليست مجرد ملاحظة عابرة، بل هي اعتراف رسمي من أعلى هرم المؤسسة العسكرية الأقوى في العالم بأن قواعد اللعبة تغيرت بالكامل، وأننا أمام جيل جديد من الحروب لا يشبه ما قبله، لا في الأدوات ولا في الأساليب ولا في تكاليف المواجهة ولا في سرعة التغيير، وأنهم يتعلمون يا متعلمين! لقد كررنا مرارًا، في مقالات عديدة سابقة، أن الحرب الروسية - الأوكرانية ليست مجرد حرب تقليدية جديدة، بل تمثل تحولًا دراماتيكيًا في طبيعة النزاع المسلح، وأنها التغيير الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية. وقد فرض واقعًا عسكريًا جديدًا سيعيد تشكيل الإستراتيجيات العسكرية لعقود قادمة. ربما أعدنا هذا الكلام سبع مرات أو أكثر، والزملاء في «الوطن» عندهم العدد من كثر التكرار! النظريات القديمة وأعداد الدبابات والمدرعات، والإستراتيجيات القديمة عن التفوق العددي، أصبحت شبه منتهية الصلاحية، وحلت محلها مفاهيم جديدة كليًا: عصر الدرونات، والذكاء الاصطناعي، وهجمات الأسراب. ربما لم يُؤخذ هذا الكلام على محمل الجد حين نادينا به سابقًا، لكن حين يأتي من وزير الدفاع الأمريكي، فإن الصدى قد يصبح أوسع، وقد يجد بعض من اعتاد التشكيك سببًا لمراجعة مواقفه. نعيد التذكير هنا، لا تكرارا لمجرد التكرار، بل لعل الذكرى تنفع من لا يزال يُنصت، ونُعيد القول، على الرغم من أننا كتبنا في هذا الملف ربما عدد كبير من المقالات، وقدمنا تحليلات مفصلة مدعومة بالشواهد، لأننا ندرك تمامًا أن «مزمار الحي لا يطرب»، وهذه من سمات المجتمعات الشرقية، حيث يُغفل أحيانًا صوت القريب، ويُصغى بانتباه لما يأتي من الخارج. لكن حين تأتي الرسالة من وزير الدفاع الأمريكي، فإن بعض الآذان تبدأ في الاستجابة، وربما يجد صوته الصدى الذي افتقدته أصوات محلية طالما تنادي بالتحذيرات نفسها. نأمل أن تصل الرسالة هذه المرة، فهي تعرف طريقها جيدًا. ولنكن صرحاء: من المدهش، بل والصادم أحيانًا، أن ترى درجة العناد والجمود لدى بعض العاملين في المجال العسكري خلال الحوارات، خاصة في المؤتمرات أو المعارض المتخصصة، فالبعض لا يزال متمسكًا برؤى وإستراتيجيات تجاوزها الزمن، رافضًا الاعتراف بأن التغيير لم يعد خيارًا، بل ضرورة بقاء. ولا يخفى أن «الأنا» المرتفعة لدى البعض تجعل من الصعب عليهم تقبل أن يأتي مدني، ولو بخلفية علمية أو تحليلية، ليقدم توصية أو اقتراحا لمن قضى عقودًا في ساحات التدريب والعمليات. وقد يُفسرون ذلك على أنه ضرب من الجرأة! ولكنهم يغفلون أن من يقف خارج الضجيج الميداني (خارج المعمعة) تكون زاوية رؤيته أوسع، ونظرته أكثر شمولية وبعدًا، وغالبًا ما يكون أقدر على رصد التحولات الكبرى، وفهم السياق الكلي بعيدًا عن ضغوط التفاصيل اليومية. بعض من يتحفظون على هذا التوجه يبدون مقاومة شديدة للتغيير، بحكم أن الخطط والإستراتيجيات السابقة كلّفت سنوات من المال والعمل والجهد والتدريب، بل ربما أصبحت جزءًا من الهوية المهنية لهم، لكن الحقائق لا تنتظر، والواقع لا يرحم من يتأخر عن فهمه! فحتى من قضى عقودًا في الميدان العسكري، يصبح علمه غير ذي جدوى إن لم يواكب التحول التكنولوجي السريع. لقد دُمرت في دقائق طائرات إستراتيجية روسية، تكلّفت مئات الملايين من الدولارات، على يد درونات ربما قيمتها 500 دولار، بعضها مزود بشرائح ذكاء اصطناعي تعمل بشكل مستقل أو ضمن أسراب هجومية. إنها من أقوى الضربات التكتيكية في تاريخ الحروب، وكأننا نشهد نهاية منظومة «الردع التقليدية»، وولادة منظومات ردع جديدة، رخيصة، دقيقة، ولا يمكن التنبؤ بها. حين ندعو إلى مراجعة شاملة وسريعة للإستراتيجيات الدفاعية في دول الخليج، فنحن لا نقلل من شأن الجهود السابقة، بل ندعو إلى تجاوزها إلى ما يليق بعصر جديد! إن بقاء منظوماتنا على إستراتيجيات ما قبل حرب أوكرانيا قد يجعلها عرضة لبعض الفشل المكلف، في حال نشوب أي صراع مستقبلي. نحن نعيش الآن في زمن تُدار فيه الحروب بالتقنيات الفائقة، لا بالعدد ولا العتاد التقليدي. الذكاء الاصطناعي، الطائرات المسيّرة، الصواريخ الفرط صوتية، والروبوتات القتالية أصبحت هي الركائز الجديدة لأي قوة ردع. من يظن أن خبرته في إدارة الدبابات والمدرعات لعقود كافية، فهو كمن يدخل معركة بنادق بسيف تراثي! صرّح وزير الدفاع الأوكراني بأن بلاده تنتج حاليًا نحو 10 ملايين طائرة مسيّرة سنويًا، وتسهم هذه الدرونات في إحداث %80 من حجم الضرر في ساحة المعركة! وأكد أن الدرون الأوكراني من نوع FPV لا يتجاوز سعره 500 دولار، بينما النسخ الغربية تصل إلى 1.500 دولار. كما أن درونات الاعتراض منخفضة الكلفة (بنحو 5.000 دولار) أصبحت بديلاً فعالًا للمنظومات الدفاعية الجوية التقليدية، التي تكلف عشرات الملايين. إن الجمود ورفض التغيير، والتمسك بالخطط القديمة والمفاهيم التقليدية، لم يعد يعكس إلا مستوى خطيرًا من الإنكار في مواجهة عالم يتغير كل يوم، التحول لم يعد خيارًا بل ضرورة وجودية. الصراع الأوكراني أثبت أن التكنولوجيا قلبت موازين القوة، وأن الحروب الحديثة تُدار بالعقل والبرمجيات والسرعة، لا بالقوة المادية وحدها. رسالة وزير الدفاع الأمريكي ليست موجهة فقط للعسكريين في بلاده، بل لكل من يظن أن الساحة العالمية ما زالت تخضع لقوانين الأمس، والتغيير قادم، شئنا أم أبينا، ومن لا يركب موجته، سيبتلعه تياره. نأمل أن تصل الرسالة، فهي تعرف طريقها!