في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، قام المطران الإيرلندي جيمس أشر بحساب عمر الأرض استناداً على تفسيره للكتاب المقدس، واستنتج أن الأرض خُلقت في الثاني والعشرين من أكتوبر من العام 4004 قبل الميلاد، ولأن اليوم فيه 24 ساعة، وهو إنسان يتحرى الدقة، فقد حدد وقت الخلق بالساعة السادسة مساءً!. ومع الثورة العلمية التي حصلت بعد ذلك، قام وليام طومسون (لورد كلفن) - وهو عالم رياضي وفيزيائي سميت به وحدة الحرارة المطلقة (كلفن) - بتحديد عمر الأرض بين 20 و400 مليون سنة، بافتراض أن الأرض كانت في حالة انصهار، ثم حسب الوقت اللازم لانخفاض حرارتها تدريجياً حتى تصلبت. ومع اكتشاف النشاط الإشعاعي والمواد المشعة مطلع القرن العشرين، استطاع العالم النيوزلندي أرنست رذرفورد - الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء - حساب معدل تحلل المواد المشعة أو ما يعرف ب«عمر النصف» وهي المدة اللازمة لتحلل نصف كمية المادة المشعة، وقد ألمح رذرفورد إلى أنه يمكن استخدام هذه العملية لتحديد الزمن المطلق للصخور. وفي 1949 استخدم بروفيسور الكيمياء في جامعة شيكاجو ويلارد ليبي عنصر الكربون -14 المشع في تحديد عمر الأحافير العضوية، ولكي يتأكد ليبي من صحة طريقته، عمد إلى تطبيق طريقته على قطع أثرية عمرها معلوم ومحسوب من خلال حلقات الشجر؛ وهي طريقة مستعملة لتحديد عمر الأشجار عن طريق حساب عدد الحلقات الموجودة في جذوعها، والتي تتشكل بمعدل ثابت بمرور السنوات. وبتحليل خشب مأخوذ من قبر فرعون زوسر الثالث وخبزة متحجرة من مدينة بومبي الإيطالية (أو مدينة الرذيلة كما يطلق عليها) والتي بقيت مدفونة تحت رماد بركاني لمدة 1600عام، وجد تطابقا بين الطريقتين، مما يعني نجاح طريقته بالتاريخ باستخدام الكربون المشع، محدثاً ثورة علمية في هذا الباب، وفاتحا أفقا جديدا للعلماء في تخصصات مختلفة كالجيولوجيا والأنثروبولوجي والآثار والبحار وغيرها، استحق على إثر اكتشافه هذا «التأريخ بالكربون المشع» جائزة نوبل في الكيمياء سنة 1960. تعتمد آلية التأريخ بالمواد المشعة على حقيقة احتواء أجسام الكائنات الحية على الكربون العادي والكربون المشع بنسب معلومة نتيجة لامتصاصها الغذاء بشكل مستمر، حيث يوجد الكربون في الطبيعة على شكل ثلاثة نظائر، وبنسب مختلفة: كربون -12 وهو الكربون المعروف (أقل من 99 %) وكربون -13 (1 %) وكربون -14 ونسبته ضئيلة جداً (واحد في المليون)، ويتشكل هذا الكربون المشع في الطبيعة باستمرار بفعل الأشعة الكونية عند تفاعلها مع ذرات النيتروجين في طبقات الجو العليا. وعند موت كائن ما، فإن ذرات الكربون المشع تبدأ بالتناقص بمعدل ثابت، ففي كل 5700 سنة تتحلل نصف ذرات الكربون المشع وتعود إلى ذرات النيتروجين التي تكوَّنت منها، وبحساب عدد الذرات المتحللة يمكن تحديد تاريخ موت الكائن. وقد استخدمت هذه التقنية في فحص صفحات أقدم مصحف في العالم والموجود في جامعة برمنجهام البريطانية، وتبين أن زمن كتابته يعود إلى نحو 1370 عاماً، كما تم بها تحديد الفترة التي انقرض فيها إنسان نياندرتال قبل 35 ألف سنة، والذي عثر على أول أحفورة له في وادي نياندرتال في ألمانيا عام 1856، وبنفس التقنية، استطاع باحثون من عدة دول الكشف عن العمر الحقيقي للوحة فنية مزيفة، زعم مزيفها أنها تعود لعام 1866، ولكنها في الحقيقة أحدث من ذلك بأكثر من 100 سنة. كما سنت اليابان نظاماً يلزم تجار العاج باستخدام تقنية الكربون المشع لإثبات عمر الفيل الذي أُخذ منه العاج. هذا النوع من التأريخ لا يقتصر على الكربون المشع فقط، فبالإمكان استخدام عناصر مشعة أخرى، مثل اليورانيوم المشع والبوتاسيوم-ارجون، وقد استخدمت سلاسل اليورانيوم المشعة في تاريخ أول أحفورة للإنسان الحديث (Homo Sapiens) في شبه الجزيرة العربية، والتي وجدت في صحراء النفود بالمملكة العربية السعودية عام 2016، وحدد عمرها ب85 ألف سنة. وفي 2001 قام علماء بتحديد عمر قطعة من كريستال الزركون عُثر عليها في هضاب جاك، غرب أستراليا، تعود إلى 4.4 مليارات سنة، وذلك من خلال دراسة ذرات اليورانيوم والرصاص بها، لتصبح بذلك أقدم العينات في القشرة الأرضية على الإطلاق، أما عمر الأرض المقدر حالياً فهو 4,5 مليارات سنة، وذلك بتحليل عينات مأخوذة من مكونات القمر وبعض النيازك. التأريخ بالمواد المشعة ما هو إلا «تقويم ذري»، فبه لن يكون التاريخ مجموعة من الأكاذيب المتفق عليها كما يراه نابليون، ولن يتأثر بكاتبه كما يعتقد تشرشل، ولن تمرر من خلاله الأكاذيب كما قال جورج أورويل.