احتياج الإنسان لمن يمثله يكون في كثير من الأحايين حالة نفسية وتعبيراً عن التطلعات وعن جوانب مضيئة تستتر خلف الحواجز، لكن هذه الحاجة قد تتحول إلى طريقة في التفكير ومن ثم أسلوب في التعاطي مثل الخوف على أو الخوف من الذي يتحول من شعور إلى سلوك تبنى عليه الأفكار والتطبيقات والسياسات. سأسقط فكرة هذا الموضوع على الحالة السعودية تحديدا وهنا أزعم أن الخصوصية السعودية إن وجدت فإن فكرة (التمثيل) هي سيدة هذه الخصوصيات، كما أود الإشارة إلى أنني أضع هذا الموضوع في خانة التساؤل لا التقرير طلبا لمزيد من الرأي حوله.يقول أحدهم إن السعوديين ليسوا (تفاصيليين) فهم مغرمون بالعموميات ذلك أنهم يخشون شيطان التفاصيل بدلا من الاستعاذة منه والعمل على مواجهته، ويقصد أن هناك شغفا بالتعويل على الصورة العامة الجيدة والمخاتلة أحيانا مع تجاهل ما يعتمل داخل البنية من خلل وهذا ليس خاصا بالمجال الفكري بل حتى التنمية أصابها هذا الداء!إن المحافظة على المكتسبات أمر مهم ولا شك، ومن المكتسبات المهمة هذه الصورة العامة عن المملكة العربية السعودية كبلد محافظ يحوي الحرمين الشريفين ويمثل أنموذجا لبلاد المسلمين، هذه الصورة/ الأنموذج صنعت وفق ظروف وأسباب معلومة، وحتى هنا لا إشكال، لكن المشكلة تكمن في جعل هذا الأنموذج مقياسا ومعيارا عند مقاربة المستجدات بكل صورها سواء تلك المعززة للقيم السائدة أو المهددة لها، ذلك أن فئة ممن يحملون لواء الخطاب الديني لا يملكون سوى هذه الصورة الوضيئة للتلويح بها عند وجود نازلة من نوع ما سياسية أو إعلامية أو ثقافية فكرية.. هذا التصنيم للأنموذج يعكس ويقود إلى جمود الحراك في اتجاه واحد لا يتجاوز الظاهرة الصوتية للحفاظ على المكتسبات. إن أسوأ ما يمكن حدوثه أن نكون عالة على (أنموذج) ليس من صناعتنا بل صنعه الأوائل في ظروف معينة بحيث تكون علاقتنا به شعارا عاطفيا ليس لها في الواقع نصيب من تطوير وترقية، عدا تلك الرغبة الصادقة في المحافظة عليه. نحن هنا أمام الارتهان لحالة نفسية اعتادت هذه الصورة وتجد صعوبة في قبول تغيرها، وهذا من حق أصحابها أن يجدوا في المجتمع العام ما ينسجم مع تصوراتهم وتربيتهم، لكن هذا الارتهان يقود لظاهرة (عدم تحمل) وجود المختلف سواء كان هذا الاختلاف يقع في نطاق التنوع أو التضاد مما قد يقود للعزلة الشعورية والاغتراب وتوابعها أو المواجهة الحادة ونتائجها.إن الشعور بأن الفرد أو المجموعة الصغيرة (محسوبة) على الجماعة الأكبر هو شعور ثنائي التأثير، والتوازن حيال هذا الأمر لابد منه حتى نتجنب ظاهرة المفاصلة والارتحال وحتى نتجنب مجاملة المخرجات السالبة والتغطية عليها بحجة أنها تمثلنا في الأصل، ذلك أن العمل لفترة طويلة تحت مظلة جماعية مؤيدة يضفي نوعاً من الاستحقاق ويوهم بصحة مطلقة للعمل، وأن الانتقال إلى بيئة ترفع شعار الممانعة والتساؤل يحتاج إلى تفوق كبير على الذات وإعادة الحسابات بطريقة متواضعة تحاسب فيها النفس قبل محاسبة الآخرين.ينحو الإسلام منهج الحفاظ على الجماعة عبر تعاليم معروفة حتى أن الفقهاء عندما يبدو لهم ما يظنونه تعارضا في الأدلة يطبقون قاعدتهم المعروفة (الجمع أولى)، وفي منهج الإسلام التربوي نلاحظ نوعا من التأكيد على الانضباط الجماعي ونلاحظ أن حرية المجتمع أضيق من حرية الفرد وذلك باعتبار المحاسبة الفردية فالتحريض على الإخلاص في حالة الفرد وهذا منحى (أخروي) على العكس منه المنحى الدنيوي الذي يتم فيه بالتعامل بالظاهر عند مقاربة شؤون المجموع دون إحداث صدام بين المفهومين، مع الإحالة إلى الخلل في نفوس الأفراد على طريقة (قل هو من عند أنفسكم)، هذه الثلاثية (الجمع/ الانضباط العام/ الذات) إذا وقفنا على مسافة واحدة منها يمكن إحداث توازن كبير حين التعاطي مع المتغيرات وبطريقة يتم فيها الحفاظ على السلم الاجتماعي ودون إحداث شرخ في العلاقة بين أطياف المجتمع.إن أهم تجليات هذا الأمر هي العلاقة بين الخطاب السياسي وسائر الخطابات من دينية وتربوية وثقافية فكرية فإما الوقوع في حالة استلاب كامل وتكرار ذات العموميات التي يقتضي إنزالها على التفاصيل نوعا من الاستقلال مما يلغي شخصية سائر الفعاليات وإما الرفض والوقوع في خانة العصيان وظهور الخلاف المرفوض (سرا أو جهرا)، لتنمو تحت ظلاله جزر معزولة من الأفكار تزدهر مع الوقت في الاتجاه الخاطئ. ويظل الحوار لا لذات الحوار بل للوصول إلى توافق دون القفز على الواقع هو الحل.