ارتفاع أسعار النفط    "وِرث الفن".. رحلة ترفيهية تدمج التراث السعودي بالتقنية    الرياضات الإلكترونية تتوسع عالميًا وتحقق إيرادات قياسية    "الأونروا" تؤكد توقف آلية إدخال المساعدات إلى غزة    حقوق الإنسان تتسلم شكاوى ضد 57 أسرة    400 ألف عبوة مياه لأسر محتاجة بجازان    خيول أصيلة تحرج الجيش الفرنسي    إسلامية جازان تُطلق البرنامج الدعوي "الأمن الفكري في المملكة العربية السعودية " بمحافظة أبو عريش    الشؤون الإسلامية بجازان تنفذ برامج دعوية بمحافظتي بيش وصامطة لتعزيز الوعي بشروط وأهمية الصلاة    بعد توقف عامين استئناف جلسات منتدى الأحساء    مؤشرات الأسهم الأمريكية تغلق على تباين    متى يجب غسل ملاءات السرير    تحسن طفيف في التلقيح العالمي للأطفال    ما الذي يدمر المفصل    النصر يعلن وصول " جيسوس"وطاقمه الفني إلى الرياض    مفتي المملكة يستقبل رئيس مجلس إدارة جمعية النور    ارتياح سعودي لإجراءات الحكومة السورية    أمير القصيم يشهد اتفاقية لإنشاء أكاديمية للأيتام    "الشورى" يطالب بمبادرات وطنية للحفاظ على اللغة العربية    سحب الجيش والشرطة العسكرية تتولى المهام.. وقف إطلاق النار في السويداء    يسرق بطاقات بوكيمون ب 113 ألف دولار    وافق على تنظيم مركز الإحالات الطبية.. مجلس الوزراء: تمديد العمل ببرنامج الرهن الميسر ل3 سنوات    دعا لإعادة تأهيل المناطق المتدهورة بالشعب المرجانية.. "الشورى" يطالب بوضع آلية لرسوم وتراخيص المنشآت الترفيهية    الميدان يشتعل بغارات دامية.. خطة إسرائيلية جديدة للانتشار في غزة    أكدت عدم السعي لتوسيع رقعة الصراع.. إيران تفتح «نافذة الدبلوماسية»    نيابةً عن سمو أمير منطقة الباحة.. وكيل الإمارة للشؤون الأمنية يرعى حفل ملتقى الباحة للحرفيين ويدشّن مبادرة "تجربة السائح" ضمن مهرجان صيف الباحة 2025    ناقل الحطب المحلي في قبضة الأمن    كريم عبد العزيز أول بطل ل 4 أفلام بنادي ال «100 مليون»    نادي النجم الأزرق.. قصة نجاح في "الرابعة"    الهلال يفاوض"نونيز" بطلب من إنزاغي    المفتي يستعرض جهود "النور" في تحفيظ القرآن    أبرز سلبيات مونديال الأندية..المقاعد الفارغة ودرجات الحرارة وغياب أبطال أوروبا    بقيمة 143 مليار ريال.. 454 فرصة مطورة بالقطاعات الصناعية    2.3 % معدل التضخم    إغلاق منشأة تداولت منتجات تجميلية متلاعباً بصلاحيتها    تحرك في الهلال لضم لاعب الدوري الإنجليزي    وجهة عالمية    8 منتخبات إقليمية تتنافس في النسخة الثانية من بطولة تحت 13 عاماً بالطائف    ألفاظ شعرية تخالف العقل والعادة    أمانة حائل تنظم ورشة عمل حول الاقتصاد الدائري في قطاع النفايات    مجازر في الشاطئ وغزة بقصف إسرائيلي    التشكيل والتراث المحلي في معرض «ألوان الباحة»    ختام الأسبوع الثقافي السعودي في اليابان..    برازيلي عميدا لمدربي روشن و56 % مستقرون    القبض على باكستانيين في بحرة لترويجهما «الشبو»    أمير تبوك يطمئن على صحة الشيخ عون أبو طقيقه    مبادرة وطنية تُبصر الأمل: "عيناي" ينقذ آلاف المرضى من مضاعفات السكري    محافظ أبو عريش يرأس اجتماع المجلس المحلي لبحث الاستعدادات لموسم الأمطار    القبض على 12 وافدا لممارستهم الدعارة بنجران    ميتا» تخطط لتطوير ذكاء اصطناعي فائق يتجاوز قدرات العقل البشري    استقبل وفداً من هيئة الأمر بالمعروف.. المفتي يثني على جهود«نعمر المساجد»    عزت رئيس نيجيريا في وفاة الرئيس السابق محمد بخاري.. القيادة تهنئ رئيس فرنسا بذكرى اليوم الوطني لبلاده    أشرف عبد الباقي يصور«السادة الأفاضل»    محمد بن عبدالرحمن يستقبل نائب أمير جازان وسفير عمان    أمير الشرقية يستقبل سفير جورجيا    فيصل بن مشعل يتسلّم تقرير مزادات الإبل وفعاليات يوم التأسيس في ضرية    أمير منطقة جازان يستقبل رئيس المحكمة الإدارية بالمنطقة    نائب أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على الشثري    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من لحس الأحذية إلى حذاء فان غوخ
نشر في الشرق يوم 08 - 07 - 2014

إليكم هذه التحديدات المجنونة: الكتابة الجديرة بالقراءة عند ألبير كامو هي الكتابة اللاذعة وحسب. جوهر الفن في فكر هايدغر هو الشعر ولكن الشعر هبة وعطاء يتجاوز العادي والمألوف ويمنح التاريخ دفعة ليبدأ من جديد، الشعر لديه يعيد صوغ الحقيقة خارج المنطق والعقل والفكر التصوري، أما جان كاكتو، المخرج والشاعر الفرنسي متعدد المواهب، فإنه يقدح الإبداع بنار الجنون والترويع، «الشعر هو المروع» وفاكهة الشعر الغموض. ويمكن للشاعر أن يكون مثقفا أو مجنونا، ذاتيا أو ثوريا، أو أي شيء عدا أن يكون مقبولا اجتماعيا، وفي هذا يقول الشاعر بوكوفسكي الذي يحب العنب والطعام ولا يقرأ كل الكتب: «المنطقة التي تفصل الدماغ عن الروح، تتأثر بالتجربة بشتى الطرق.. بعضهم يفقد عقله ويصبح روحا: مجنون…. بعضهم يفقد روحه ويصبح عاقلا: مثقف… بعضهم يفقد الاثنين: مقبول اجتماعيا».
حشدت هذه الرؤى لأفضح آفتين متنافرتين تتصف بهما النخبة الثقافية: التعالي والتملق. فالمثقف لدينا نتاج لتناشزات تراجيدية بين تقليد التبعية والتسول كإرث مستمد من الماضي من جهة وحداثة الدور المستورد من سياقات اجتماعية وتاريخية مغايرة من جهة أخرى. حيث دائما وأبدا يظل النخبوي كما هو، كائن متعالٍ حين ينظر إلى الأسفل، شحاذ فيما سوى ذلك. وكل شيء يمكن أن يتغير فيه إلا السمة الطفيلية وازدراء «العامة»، أن يتكسب ويتسلق مثل أي وصولي، ويضحك على العامة بخدع الخطاب وألاعيبه.
لا ينفك المثقف لدينا عن أن يكون تبعيا، فلكي يستجدي القبول ويجد له مكانة لائقة بين «الخاصة»، يجد ذاته مرغما على خيانة الوظيفة والدور المنوط به.. الأنتلجنسيا في واقعنا تخون ذاتها دائما، إنها ممزقة بين تاريخ الترضيات حيث الأديب بالمعنى التراثي هو شاعر المديح، وبين مرجعية حديثة لمثقف مستقل بالضرورة، مثقف لا يقيم مزرعته الخاصة ولا يستجدي أحدا، يغادر العالم ويصنع عالماً آخر على طريقته، يقيم في الخارج دائما، خارج القبيلة والطائفة وكل إطار أو تجمع سلطوي. الاستقلالية صفة أساسية في المثقف الحديث، لاحظها المفكر الفرنسي «جيرار ليكريك» في كتابه «سوسيولوجيا المثقفين».
بدأ المثقف يتكون حيث بدأ التمرد، وانكسرت حلقات التبعية، بدأت النخبة الثقافية تتكون منذ أن بدأ المثقف يسن لذاته تعريفا مغايرا.. هناك أكثر من تاريخ تأسيسي كما يقول «ليكريك»، فرنسا -على سبيل المثال- دخلت عصر المثقف مع تفجر قضية داريفوس، الضابط الفرنسي البريء من تهم التآمر لصالح الألمان في القرن التاسع عشر، الذي ساندته نخبة المثقفين آنذاك بقيادة الروائي «إيميل زولا»، حينها بدأ المثقف يعي ذاته كذات مستقلة، ليست مهجوسة بالكليات المفارقة، بالميتافيزيقا واللانهائي المفارق كما كان يفعل سلفه القروسطي، بل صار معنيا بتلك الممارسات التوحيدية الأكثر تمردا ومعارضة ضد الواقع التراتبي والطبقي: مزج اللانهائي بالنهائي، والكليات المثالية بالمادة وواقعية الراهن والآني، صار المعنى ملتصقا بالأرض، والسيادة والمشروعية شعبية بامتياز، تحولت النخبوية من تبرير لما هو سلطوي إلى انحياز لكل ما هو مهمش ومستبعد، أصبح للنخبة نكهة مستمدة من قضية داريفوس، المغضوب عليه من السلطات الفرنسية، مما يعني أن الحدث الافتتاحي كان حدثا انشقاقيا، قطيعة يقيمها المثقف بين رجل الأدب الحديث وسلفه رجل الماورائيات والفروسية المتسولة على أعتاب السيد الاقطاعي.
أما في واقعنا الثقافي فالقطيعة لم تكتمل بعد، مادام للتوحيدي الذي أحرق كتبه ورثة مقصيون عن المائدة، إذ ما زال المثقف يشحذ ويمدح ويقتات، وفيما هو يتصعلك على موائد الخاصة يأنف من مشاركة الصعالكة من العامة، تلك هي المفارقة، قزمية تحاول الصعود على أكتاف الألم والحرمان والتهميش، ولكن أيضا الحقيقة، فالتبعية تنتج زيف الخطاب في كل مرة تتراجع فيها عن المواجهة وتتعالى على هموم المرحلة، لا أدري كيف يستمرئ المثقف بيع الترضيات وتزوير الخطاب بتحريف الهموم الواقعية وبلع إملاءات أرباب النعمة.
بوسعي أن أستفيض بتعداد النماذج التي من شأنها الفضح والتعرية، أن أذكر معاناة كثير من المثقفين والنخب كالفيلسوف برتراند رسل الذي سجن بسبب نشاطه المناهض للحرب، وموقف سارتر المناهض لحكومته في قضية الجزائر، أو مشاغبة الروائي الألماني «غونتر غراس» بقصيدته «ما ينبغي أن يقال» ذائعة الصيت حول إسرائيل وممارساتها العنصرية، أو اهتمام الفيلسوف الفرنسي بقضية السجناء في فرنسا، كل ذلك يفضح الدلالات الانسحابية التي نصطدم بها كلما واجهنا تحديا اجتماعيا، ليس المثقف إذن من يجيد الترضية، بل هو – بالتعريف- من يتقن الشقاق.
التكسب، التبعية، الوصولية والتملق..الخ، مفردات أساسية يمتاز بها الشحاذ وليس الأديب. متى يدرك «مثقف الترضية» أن الأدب اليوم ليس مديحا للخاصة أو خطاباً مؤثثاً بكولاج الترضية، الأدب اليوم منذ نيتشة وهايدغر وحتى جاك رانسيير هو اسم جديد لحقيقة تتسم بأرضيتها وآنيتها وانسانيتها، ليس من شأن الأدب الإقامة في أبراج عاجية، ولا التكسب بتوزيع المدائح أو الترضيات، وإنما الإقامة في «العالم وإنتاج الأرض» على حد قول هايدغر، إنها مهمة شقاقية هرطيقية دائما، مما ينفي الأديب والفنان والشاعر والمفكر من عالم الترضيات والتبريرات ليقيم في بيته حيث التشرد في عالم ذاتي، ليتحول من حرق الكتب والنفي من العالم إلى حرق الحدائق الخلفية والموائد الخاصة والمشاركة في تشييد العالم، ولكي يتحول -أخيرا- من مجرد أثر فاني لشحاذ يلحس الأحذية إلى محض فعالية فنية تترك أثرها في العالم وتوزغ بصماتها الخالدة والمستقلة، تماما كما فعل فان غوخ بحذائه: ينتصب خالدا ليدين كل موقع ينبغي أن يتغير، إنه حذاء الفقير فان غوخ!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.