على مر العصور ونحن نسمع أن الفنان التشكيلي غالباً ما يعيش حالة من الفقر وأنه أحياناً لا يجد المال الذي يستطيع من خلاله أن يوفر تكاليف خاماته الفنية، فإذا تطرقنا لرواد الفن نجد أنهم لم يستمتعوا بمكاسبهم المادية أثناء وجودهم في الحياة التي وصلت أثمانها إلى أرقام خيالية بعد مماتهم، فيما عدا اثنين عرفوا بثرائهم من وراء فنهم خلال وجودهم في الحياة هما: "بابلوا بيكاسو" و"سلفادور دالي"، ولكن هذا كان قديماً وفي عصور تختلف أوضاعها وظروفها عن عالمنا الحالي. فما وضع الفنان العربي الآن؟.. هذا الفنان الذي أخذ جل سنوات حياته في الدراسة والممارسة ومتابعة كل ما هو جديد من علم وثقافة ليطور فنه، هل يستطيع أن يحقق من خلال بيع أعماله الفنية ما يكفل له ولأسرته حياة مستقرة مادياً بحيث يستطيع أن يعيش في بيئة تؤهل له المناخ الصحي لينتج فناً أصيلاً؟. نستطيع أن نقسم وضع الفنانين العرب اجتماعياً إلى فئتين؛ الأولى هم ميسورو الحال وهؤلاء في استطاعتهم أن يوفروا أفضل أنواع الخامات الفنية والسفر إلى بلدان العالم، سواء للتعرف إلى ما يدور في المعارض، أو كسب خبرات تطور فنهم ما يساهم في انتشارهم عالمياً، وهم قلة. أما الفئة الثانية وهي التي تمثل الأغلبية العظمى من الفنانين بعضهم لا يملك حتى إيجار بيته، ولكنه يعاني لينتج فناً، لأن الفن هو كل ما يملك ولا يستطيع أن يعيش من دون ممارسته فالفنان الصادق يعد الفن بالنسبة إليه الهواء والماء والغذاء. الفنانة مروة ماهر معروف "أستاذة فنون تطبيقية" من جمهورية مصر العربية تجد أن في بداية حياة كل فنان التي تأتي بعد معاناة فترة دراسته للفنون وكسب خبرات تأخذ جل سنوات حياته ما يؤهله بأن يشارك في معارض بجانب أساتذة ومشاهير مجاله؛ لا يبيع إلا لوحة أو لوحتين لا تكفل متطلبات معيشته حتى ولو كان أستاذ فنون فأغلب وقته يدرس بالجامعات إضافة إلى دروس خصوصية ولا يجد الوقت الكافي لممارسة فنه. الفنان حسين الشواف "مخرج فني ومصمم إعلانات" من السودان الشقيق يجد أن تحقيق رواتب ثابتة للفنان العربي هو مطلب صعب المنال، كما أنه يجد أن الدول الغربية تضع الفنون في قمة الهرم الوظيفي، وبقية المهن في أسفله لأن الأخيرة لا توجه رسائل إنسانية، ولا تصنع حضارات، فيأتي الفن في المرتبة الأولى ليحظى بتبني صالات العرض للفنانين، ودعمهم مادياً، وتزويدهم بالمراسم والخامات وتهيئة الجو المناسب لهم؛ لإنتاج أعمال فنية، فلا يحتاج الفنان المحترف أن يؤمن مصدر دخله، إضافة إلى دعم المؤسسات الحكومية وغير الحكومية له. كما أعرب الشواف أن الفن بالمملكة أحسن حالاً من السودان؛ لأن فناني وطنه لا يمتلكون حتى صالات عرض مهيأة ما دفع الفنان السوداني إلى إنتاج أعمال حرفية تطبيقية نفعية لكي يؤمن عيشه.. وليست هذه المعاناة خاصة بمكان عن آخر، بل هي معاناة الفنان العربي عموماً. ويحدثنا الفنان التشكيلي القطري علي عزام قائلاً إنه يتفق على أن الفنان العربي لا يستطيع أن ينتج فنا من دون أن يكون لديه وظيفة أخرى، وأن عالمنا العربي لا يعي أهمية العمل الفني الأصيل، وليست القاعدة للتعميم، ولكن الأغلبية يفضلون شراء أعمال من فنانين أجانب وهؤلاء الفنانين غزت أعمالهم سوق الفن العربي لما تحويه من إبهار تقني أغلبها مقلد وليس أصيلا هذا إضافة إلى قلة أثمانها، فالمقتني العربي لا ينظر إلى الجوهر بقدر نظره إلى أن العمل الفني مكمل لديكور منزله. عند العودة إلى فناني الوطن نجد الفنان فيصل الخديدي لا يشعر بهذه المشكلة مع أن لديه وظيفة كمشرف تربوي بمدينة الطائف فقد أعرب بقوله: إن الفن المعاصر هو فن صناعي "حرفي" وليس بالضرورة أن يلتزم هذا النوع من الفن بالموهبة أو الدراسة بل يعتمد على مهارة منتجه، والدعم الإعلامي، والمسوق الجيد، فهذا "الفن الصناعي" كما وصفه الخديدي يستطيع أن يحقق مكاسب مادية تكفل احتياجات المعيشة للفنان! ولعل الخديدي قصد هنا الفنان الذي ابتعد عن مجاله وتحول إلى حرفي. أما الفنان عبدالرحمن السليمي، أستاذ تربية فنية بمكة المكرمة، فيجد أن الاعتماد على مردود الفن ليس كفيلاً بأن يغطي كافة الاحتياجات المادية للعيش، وأن وظيفته تساند وتتفق مع فنه، وتعد بالمرتبة الأولى الدعم الحقيقي له، ولا يجد عناية كافية بهذه الشريحة المبدعة، التي تفتقد إلى من يتبناها ويدعمها أو من يهيئ فرص النجاح لها، ولا توجد حماية على إنتاج الفنان المحلي المبدع من قبل قراصنة الفن سواء أصحاب المحلات الفنية "المسوقين" أو غزو الفن الأجنبي، وأنه قليلاً ما نجد الوعي الكافي من قبل المتلقي وحرصه على الاقتناء نظراً لعدم وعيه بقيمة وأهمية العمل الفني الأصيل، كما أن الاهتمام بإقامة المعارض الشخصية وإبرازها في قالب راقي يتفق مع مستواها الفني والعمل من الجهة المقيمة لهذه المعارض على الاهتمام بتسويق أعمال الفنان له أهمية في التواصل والعطاء وأيضاً التطور. إذن الفنان المبدع العربي الأصيل يستطيع أن يحقق استقرارا ماديا يكفل له متطلباته وشؤون حياته إذا توافرت له عدة أشياء منها: "بدل تفرغ مدروس لدعم المبدعين ليمكنهم من تغطية خاماتهم الفنية المكلفة، مؤسسات مسوقة لتبني أعمال الفنانين مع حفظ حقوقهم الفنية ما يساهم في انتشارها محلياً ودولياً، مراسم مجانية يستطيع الفنان أن يعمل بها إذا لم يكن لديه مرسم خاص، صالات تتبنى الفنان وتدعمه مادياً لإنتاج معارض شخصية، أيضاً التعاون بين الجهات المعنية بالفنون والقطاعات المختلفة التي من خلالها يتم تسويق أعمال الفنان المحلي بالمرتبة الأولى، كما نأمل إعادة إحياء صندوق دعم الفنان. فيصل الخديدي عبدالرحمن السليمي مروة ماهر معروف سلفادور دالي