مهرجانات الحدس والاحتمال... * ليس كل ما يحكيه الإنسان أو يكتبه يطلق عليه نصاً أدبياً.. لماذا؟ لأن للنص الأدبي معايير ذوقية وثقافية وجمالية.. لذلك، يظل السؤال الأهم هو: كيف؟ قكيف للغة أن تصير سرداً مثلاً؟ النص السردي مؤلف من متن هو الثيمات الموضوعية، ومن مبنى هو الثيمات الفنية الجمالية الإبداعية.. وليكون نص ما سردياً، لا بد له من أن يضيف رؤيا متثاقفة، متفاعلة مع عناصر القص من مقدمة وحدث وحبكة وشخصيات وزمان ومكان وخاتمة.. وهي عناصر القص الكلاسيكية التي بدأت تنزح عن قوالبها متجهة إلى حداثتها الأشد إبداعاً.. كيف؟ صار من الممكن أن تكون اللغة شخصية، والحدث حدثاً ظاهراً وخفياً، متوازياً، أو متقاطعاً، متداخلاً أو مركّباً.. والخاتمة مفتوحة، أو متعددة النهايات، أو متعددة الاحتمالات.. والمهم، أن القارئ على اختلاف تنوعاته من قارئ عادي إلى قارئ ناقد صار شريكاً في العملية الإبداعية.. وعليه، وبعد مرور الكتابة بعصورها القديمة والحاضرة والآتية، استفاد الإنسان من طاقاته الجوانية وعكسها على طريقة الكتابة.. وكلما ارتقى الباطن والظاهر ارتقت الكتابة إلى عالمها الإبداعي المستمر في الدومان.. قال جان ليسكور ذات بصيرة: "المبدع يحيا بالأسلوب الذي يبدع به".. وإلا فهو ليس مبدعاً، بل هو إنسان يعاني من حالات نفسية مرضية مصابة بالشيزوفرانيا على أقل تقدير. الإبداع عالم من القيم الأخلاقية والجمالية تزيد الإنسان إنسانية.. ومن لا يمتلك النقاء الروحي والكلامي والرؤى المستغرقة مع فنيات الآتي، لا يمكن أن يكون مبدعاً لا في الحياة، ولا في الكلمة. كيف نبدع؟ سؤال يطرد أغلب الكتابات والخربشات والخواطر من ملكوته، ولا يحتفظ إلا بالذي يضاهيه بالدهشة والجديد والمشع من كل احتمال ولا احتمال.. لا يكفي كما قال "ديكارت: أنا أفكر إذن أنا موجود" ولا يكفي: أن اكتب إذن أنا موجود! الأهم هو أن نعلّم اللغة ما تجهله، وأن ندهش الإبداع في كل زمكانية.. أن نصدم الأبدية بما لا تتخيله، وأن نرشق المستقبل على الأزمنة ليكون النص المبدع محتفياً بمهرجانات الحدس المشتعلة أبداً بالبارق والصاعق والخارج عن كل توقعات الاحتمال.. وهذا لن يتحقق دون موهبة إلهية مكتظة بمختلف القراءات الأدبية الإنسانية إضافة إلى القراءة في العلوم والفلك والفيزياء والكيمياء، والأهم قراءة الغياب حيث يكمن الحاضر اللا مرئي منتظراً من يكشف حجبه ليضيء الغامض بالواضح، والواضحَ بالغامض.. فكيف نشعل البصيرة بالبصيرة لتتقاطع الدلالات مع الأحداث والأحلام واللا مرئيات؟ ثم..، كيف نحول الساكن عن حركياته المعتادة لنحركه في حركية أخرى دائمة الاشتعال والتناغم لنحتفل بموسيقى تبدع حالاتها الكاشفة للداخل الإنساني والعالم الطبيعي؟ كيف نتوغل في كينونة الكينونة لنتراءى ما يحيّرنا ثم نحيّره؟ هناك المحال قاب رؤيا.. وهنا أسئلة ال "كيف" بوصلة.. ولكل روح مبدعة مجالها الكهرومغناطيسي الرائي وهو يتملّص من المألوف إلى اللا مألوف لعله يصل.. ويظل اللا وصول جمالية اللا نهائي الذي بلا بداية، ولا نهاية.. فكيف نغريه بالبصائر ليقترب أكثر؟ لا بد من الألم المضيء، ومن لحظة يتكاثف فيها كل الزمان ليشفّ عنا أكثر.. لا بد من لغة تخرج عن كل لغة لتشير إلى مبدعها.. فكيف للبدء أن يكون بدءاً إذا لم تكتبه احتراقات الذي لا يُرى لكنه يشير؟ ***