كان قرار وزراء الثقافة العرب أنها ستعلن عاصمة للثقافة العربية في العام 2009، والأخبار تقول إنها أعلنت كذلك فعلاً، والأهم هو أن تاريخها وشواهدها الإنسانية والعمرانية تقول إنها تستحق أن تكون كذلك. لكن ماذا يقول الواقع ياترى؟ لقد منعت إسرائيل مظاهر الاحتفال في القدس نفسها بكون تلك المدينة العظيمة عاصمة لثقافة العرب، أي ثقافتهم الإسلامية بالدرجة الأولى، لأنها، أي دولة اليهود، ترى عكس ذلك، والأهم هو أنها تستطيع أن تفرض ما تراه. لم يعد لإعلان وزراء الثقافة، بتعبير آخر، قيمة على أرض الواقع. لقد ظلت القدس على مدى قرون عاصمة للعديد من الثقافات والديانات ومجمعاً لأطياف من الناس متعددي الألوان والمذاهب، ومع أنها لم تكن في ذلك بدعاً، فتعايش الجماعات المختلفة بأديانها ومذاهبها وأعراقها هو ما عرفته وتعرفه مدن كثيرة في العالم، فإن القدس احتفظت بتفردها على هذا المستوى نتيجة لأهمية المقدسات وضخامتها من ناحية ولوضوح التقابل أو التجاور السلمي والبناء بين تلك المقدسات من ناحية أخرى. فقد ظل المسيحي يذهب إلى كنيسته واليهودي إلى معبده أو حائطه والمسلم إلى جامعه دون أن تصادم أو توتر يذكر. والعالم الإسلامي الذي دخلت القدس في حماه في وقت مبكر، والذي عرفها باسم "بيت المقدس"، كان رحب الصدر كثيراً بإتاحة الفرصة لذلك التعايش كي يستمر بأن وفر الحماية للأديان السماوية المختلفة لكي تحتفظ بأماكنها المقدسة وتمارس شعائرها على النحو الذي ترتضيه. وظل ذلك قائماً ومتبعاً رغم تعاقب القرون واختلاف الولايات والدول. فالعرب الذين حملوا لواء الإسلام قبل غيرهم كان منهم المسيحيون واليهود بالقدر الذي جعل التعايش قيمة أخلاقية واجتماعية ضرورية. وحين جاء الإسلام كان مجيؤه، كما ذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، تتمة لمكارم الأخلاق، ومن تلك قبول الآخر المختلف واحترام معتقده. لكن هذا الاحترام، كما اتضح منذ ما يزيد على النصف قرن، وكما يتضح مرة أخرى الآن، ليس ديدن الجماعات اليهودية الصهيونية التي أسست إسرائيل والتي استولت على القدس قبل أربعة عقود. فالقدس، كما تؤكد إسرائيل الآن، هي عاصمة للثقافة اليهودية وحدها، وليس من الواضح عن أي ثقافة يتحدثون، طالما أن من يطلق عليهم اليهود يحملون موروثات ثقافية متباينة تباين روسيا عن أثيوبيا وفرنسا عن اليمن. لكن هذا ليس موضوعي هنا، وإنما هي القدس التي يستحق اختيارها عاصمة للثقافة العربية وقفة خاصة. ذلك الاختيار كان موضوع محاضرة ألقيتها في نادي أبها الأدبي قبل أسابيع وذهب بي إعدادها إلى بعض جوانب من تاريخ تلك المدينة كنت قد عرفتها طالباً ثم وجدتني أعود إليها من زاوية مغايرة. كان الهدف هو القدس في الثقافة العربية لكني لم ألبث أن وجدتني تدريجياً إزاء سيل هادر من الثقافات والموروثات التي تحتل القدس في كل منها مكانة مرموقة. معلوماتي المتعلقة بالثقافات الغربية وضعتني، على محدوديتها، أمام حشد من الأعمال التاريخية والفكرية والأدبية المتعلقة بالقدس، الأعمال التي يعود بعضها إلى العصور الوسطى المبكرة، أي القرن الحادي عشر الميلادي، حين بدأت المصادمات الأولى بين العالمين المسيحي والإسلامي وتولد عنها ما يعرف بالحروب الصليبية. وكانت تلك المصادمات التي كان مسيحيو أوروبا قد ابتدأوها قد بدأت ثقافة دينية ثم تحولت إلى سياسية عسكرية، لكن في كل الحالات كانت القدس بؤرة الاهتمام ومطمع الغزاة. ثم استعدت معلومات تبينت لي مؤخراً، أثناء دراستي للجماعات اليهودية، توضح كثرة ما ألف أولئك حول القدس من أبحاث وأعمال فكرية وأدبية طوال قرون لا يستهان بها. في مقابل ذلك الكم الهائل من المؤلفات حول القدس لم أجد، بكل أسف، في الثقافة العربية أعمالاً موازية، أي بالكثافة نفسها. هناك بلاشك ما كتبه المؤرخون والجغرافيون المسلمون وكذلك ما ورد في أعمال أدبية من إشارات وما تضمنته القصائد أحياناً من أبيات أو مقطوعات، لكنها في المجمل، أو هكذا بدا لي الأمر، إشارات ضمنية ومقتضبة إذا ما وضعناها مقابل الملاحم والمطولات الشعرية الأخرى، أو الكتب الكثيرة سواء كانت تاريخية أم جغرافية أم سياسية أم غير ذلك وعلى مدى ما يزيد على الستة أو السبعة قرون. من المؤشرات على ذلك أن مكتبة الكونغرس، وهي أكبر مكتبات العالم، تضم حوالي ثمانمائة عنوان باللغة العربية يشير إلى القدس في مقابل حوالي العشرة آلاف عنوان باللغة الإنجليزية وغيرها من اللغات الأوروبية يشير كلها إلى "جيروزاليم" أو أورشليم في اللغات الأوروبية (يوجد في مكتبة جامعة الملك سعود، وهي أكبر المكتبات السعودية، مائتي عنوان عربي يتضمن الإشارة إلى القدس). هل تحمل هذه العناوين دلالة كافية على أهمية ما كتب أو ألف عن القدس؟ قطعاً لا، فالأهمية لا تقاس بالكم، يضاف إلى ذلك أن المقارنة غير عادلة لأنها تضع اللغة العربية مقابل العديد من اللغات الأوروبية ثم إنها غير عادلة مرة أخرى إذا تذكرنا أن الثقافة العربية مرت بقرون طويلة من الركود. فما الذي تفضي إليه هذه المقارنة إذًا؟ إنها تذكرنا بأننا لم نفعل للقدس بحثاً ودراسة ما تستحق أن يفعل من أجلها، أن في الثقافة العربية نقصاً كبيراً في استحضار القدس تاريخياً وجغرافياً وسياسياً وقبل ذلك حضارياً وإنسانياً. القدس أول القبلتين لدى المسلمين ومسرى النبي عليه الصلاة والسلام لم يفعل المسلمون من أجلها ربع ما فعله الآخرون. أحد المؤشرات المهمة على مدى الاهتمام بالقدس هي مراكز الأبحاث التي يمكن أن ينتج عنها الكثير من المعرفة حول تلك المدينة المقدسة. لقد أنشأ اليهود في إسرائيل وحدها مراكز أبحاث كثيرة تعنى بالقدس منها ما هو مرتبط بالجامعة العبرية بالقدس التي أنشئت عام 1918 (وقد ضم مجلسها التأسيسي من مشاهير اليهود ألبرت أينشتاين وسيغموند فرويد وغيرهما)، ومنها ما هو مرتبط بمؤسسات أخرى. وهناك بالتأكيد مراكز أبحاث مشابهة خارج نطاق الدولة العبرية، لاسيما في ألمانيا وأمريكا. أما في مقابل ذلك، أي في العالم العربي، فإننا لا نكاد نجد على أي بقعة منه مركز أبحاث واحد متخصص بالقدس. لقد أنشأ الفلسطينيون عام 1984 جامعة باسم القدس على أطراف المدينة المقدسة وهي مهددة بالإزالة حسب آخر معلومة توصلت إليها لأن الإسرائيليين يريدون إنشاء خط دائري يمر بها (وقيل لأن الجدار العنصري الحاجز يخترقها). إن الإعلان عن كون القدس عاصمة للثقافة العربية لن يؤدي إلى ما خطط له من احتفالات في القدس نفسها بسبب منع إسرائيل. لكن رب نافعة ضارة: قد يكون المنع من المصلحة إن هو أدى إلى صرف النظر عن الاحتفالات، عن الأغنيات والرقصات الشعبية والخطب الحماسية، ليصير العام عام اهتمام علمي وثقافي وإبداعي بالقدس، عام الكتابة حولها والتعريف بها والإعلاء من شأنها عربياً وعالمياً. الأقرب مع الأسف هو أن القدس لن يحتفل بها لا داخلها ولا خارجها على المستوى المطلوب.