ربما لم يخطر ببال الرئيس بوش أن يكون آخر ما يتلقاه في زيارته الأخيرة كرئيس إلى العراق هو الضرب بالأحذية. الرئيس الذي لطالما صور غزوه لهذا البلد بوصفه تحريرا من العبودية والاستبداد تلقى ذات التحية الوداعية التي حظي بها تمثال الرئيس الراحل صدام حسين. تغير لافت ولاشك لما كان العراق عليه قبل عقود تحت سطوة "البعث"، ولما آل إليه في ظل الاحتلال الأمريكي. هل هو ثمن الحرية؟ ربما، ولكن الحرية ليست فقط تعبير الناس عن آرائهم - حتى بالطرق المهينة -، بل هي قدرة الإنسان على الاختيار في معاشه ومستقبله. لا شك، أن الإساءة إلى رئيس دولة - أيا كانت- هو أمر منافٍ للأخلاق ولأصول المهنة الصحافية، وما حدث بالتأكيد لا يعبر إلا عن تصرف فردي، وهي حادثة مشابهة لغيرها من حوادث التعدي على السياسيين والمشاهير. الاعتراض على سياسة الرئيس بوش أمر مشروع -بل ومطلوب-، ولكن حادثة الاعتداء على رئيس دولة أجنبية إنما هي إهانة للدولة المستضيفة، والذين يصفقون لمثل هذه البطولات الزائفة إنما يضللون الرأي العام. تاريخيا، دائما ما كان يستقبل المنتصر (أو المحرر) بالورود لأنه أنهى مرحلة حالكة كان الجميع يتمنى الخلاص منها، ولكن ما إن تهدأ أصوات التهليل والتصفيق حتى يتحول الجيش الدخيل إلى عبء يضيق به ساكنوا البلاد المحتلة، وكلما طالت مدة الإقامة كلما كان الحنق أكبر. الوجود الأمريكي في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية هو نموذج كلاسيكي لذلك، فقد هلل الأوروبيون للمحرر الأمريكي، ولكن بعد أقل من عدة أشهر من انتهاء الحرب ظهرت أعراض ذلك الضيق في الشوارع والميادين الرئيسية على هيئة مظاهرات وأعمال انتقامية، حينها قرر الأمريكيون الانسحاب إلى قواعد خارج المدن. ولولا بروز الحرب الباردة - لاسيما خوف الأوروبيين من تنامي النفوذ السوفييتي - لكان الأمريكيون أجبروا على الخروج مبكرا، بل يؤكد عدد من المؤرخين على أن ما سمح بالبقاء الكثيف للقوات الأمريكية في أوروبا هو حاجة الأوربيين المادية (والتنقية) لمشروع "مارشال" الأمريكي لإعادة إعمار أوروبا. ما يحدث في العراق شيء شبيه بهذا، لقد أهمل الرئيس بوش إعادة إعمار العراق إلى الحد الذي معه أحس العراقيون (المواطنون بالطبع) بعدم حاجتهم لأمريكا، بل وغضبهم تجاهها. بعض ذلك الغضب مبرر، والبعض الآخر منه هو وسيلة لتحميل الآخرين اللوم على حرب الإخوة في الداخل. اليوم، يتواجد الأمريكيون في العراق بسبب حاجة العراقيين لإبقاء الوضع الأمني عند مستوياته الحالية، وفي حال تراجع الوضع الأمني -لا قدر الله- فإن لا أحد يستطيع حينها تبرير بقاء القوات الأمريكية في العراق. حتى "اتفاقية بقاء القوات" التي وقعت مؤخرا -بأغلبية حزبية وطائفية جيدة- معرضة للسقوط فيما لو انخرطت كبرى المجاميع المسلحة في حرب داخلية للسيطرة على أراضي أو مصادر طاقة في مناطق التماس الطائفية والعرقية. لقد ارتكبت أخطاء كبيرة خلال هذه الحرب، بعضها كاللبن المسكوب لا يمكن استرجاعه، والبعض الآخر ما يزال قابلا للإصلاح. بيد أن الخطأ المستمر لإدارة الرئيس بوش هو إهماله لمشروع إعادة الإعمار، وفي أحيان كثيرة سكوت إداراته عن الفساد والتخريب الذي يمارسه البعض داخل العراق تجاه مشاريع إعادة الإعمار. قد يقول البعض، إن فشل الإعمار صغير نسبة إلى حجم الخسائر البشرية والمادية التي يعاني منها العراقيون يوميا. هذا بالطبع صحيح، ولكن كان من المنتظر أن يصاحب الانخفاض في معدلات العنف عبر العراق تصعيد فوري لنشاط إعادة الإعمار. لقد كانت إدارة الرئيس بوش (وكذلك الحكومة العراقية) تصران على أنه ليس بوسعهما الإسراع في برامج إعادة الإعمار حتى تتحسن الأوضاع الأمنية، وتتوفر البيئة الطبيعية لنشوء سوق عمل عراقي وأجنبي داخل العراق. طبعا، النتيجة كانت أن ركزت الإدارة على مشروع "نشر القوات"، وصرف الأموال على برنامج "الصحوات"، أي أن الإدارة قدرت أن الصرف المادي المباشر على المسلحين، وتأمين ميزانيات لشيوخ العشائر والعائلات "الجهوية" أفضل وسيلة لخفض معدلات العنف. أما إعادة الإعمار فترك بلا رؤية واضحة يتخبط ما بين مكتب "مفتش إعادة الإعمار في الجيش الأمريكي"، والوزارات العراقية، لكي يرتاح ميتا على مقاعد البرلمان المنقسم على نفسه. الحل ليس سحريا، البلدان التي تخرج من حرب داخلية -أو مفروضة عليها من الخارج - بحاجة إلى الانخراط في مشروع إعمار لسببين رئيسيين: أولا، لأن في ذلك محاولة لرفع مستوى المعيشة والخدمات الأساسية للمواطنين المتضررين، وهذا بدوره يخفف من ضغوطات الحياة عليهم لاسيما بعد الحرب والحرمان. ثانيا، أن أفضل وسيلة لإنعاش اقتصاد بلد دمرته الحرب هو تكثيف النمو المدني والعمراني والصناعي الذي يوفر بدوره وظائف -لئلا ينخرط المجرمون في حمل السلاح-، ولكي تتوفر البئية الملائمة لتبادل المنافع التجارية والخدمات (بناء الدول، فرانسيس فوكوياما، 2004). للأسف، الحركة في العراق معطلة، فقد تسبب العنف - لاسيما استهداف القاعدة للأسواق والمصانع ومحطات الكهرباء - في إبطاء النمو الاقتصادي في البلد، ونشر المخاوف بين السكان. لكن مع انحسار العنف -نسبيا- منتصف العام الماضي، لم تبادر الحكومة الأمريكية في تفعيل إعادة الإعمار، بل كان كل ما كانت تردده هو المطالبة بإسقاط ديون العراق، وعقد جولة جديدة لمنتدى المانحين. وحينما بدا أن عائدات النفط العراقية بدأت تزداد مع اقتراب الإنتاج النفطي إلى مستويات ما قبل الحرب، ذهب البعض في واشنطن - من بينهم الرئيس أوباما - إلى المطالبة بقيام العراق بتسديد فاتورة الحرب. طبعا، جاءت الأزمة المالية سريعا لتحرق أحلام العائدات العراقية، ولتترك ميزانية البلد بعجز يقارب 15إلى 20مليار دولار. لعل السؤال الأهم هو: ما الذي قدمته الولاياتالمتحدة لإعادة إعمار العراق؟ بالتأكيد، ليس ما يكفي. حتى اليوم صرفت الولاياتالمتحدة ما يقارب من 50مليار دولار فقط، ورغم أن هذا الرقم يتجاوز تقديرات الأممالمتحدة والبنك الدولي ( 35مليار عشية انتهاء الحرب)، إلا أن التكلفة الحقيقية اليوم بعد خمسة أعوام من العنف تتجاوز ذلك بكثير، إذ يحتاج العراق ما يقارب 20ملياراً إضافية كل عام، إضافة إلى الأرقام الحالية. حتى اليوم، أنفق من الأموال العراقية حوالي 67ملياراً، لتصل قيمة ما تم إنفاقه إلى 117مليار دولار. في تقرير مهم أعده مكتب المفتش العام لإعادة الإعمار، وتم تسريبه مبكرا عبر عدد الأحد الماضي من صحيفة النيويورك تايمز (دروس صعبة: تجربة إعادة الإعمار العراقية)، فإن حجم الفساد أمريكيا وعراقيا هو التحدي الأكبر منذ الغزو، إذ تم تسجيل 11حالة فساد بعشرات الملايين لمشروعات لم تنفذ أبدا، أو تم تنفيذها عبر شركات وهمية، تمتلكها أحزاب ورجال سلطة سياسية وعشائرية، وقد كان آخر هذه الفضائح إلغاء ثلاثة مشروعات عملاقة تكلفة الواحد منها تقارب 170مليون لبناء سجون وقواعد عسكرية. أكثر ما يقلق في هذا التقرير هو أن البنى التحتية العراقية لم تتجاوز مستويات ما قبل الحرب إلا بقليل بما في ذلك الكهرباء والماء والهاتف، أخذا بعين الاعتبار أنها مستويات متعثرة منذ نهاية الثمانينات عطلتها سنوات الحرب مع إيران، وسنوات الحصار في التسعينات. المسألة شاقة، وعائدات النفط التي توفر اليوم نصف تكلفة الإعمار متضررة بشكل كبير بالانخفاض الحاد في أسعار البترول وتباطؤ الاقتصاد العالمي، إذ ليس ثمة من وسيلة لإقراض العراق في أوقات صعبة كهذه لتأمين الأموال اللازمة لإعادة الإعمار. إذا كان المؤرخون سيقيمون هذه المرحلة، فستكون هذه المسألة من بين الأهم. تأمين الحرية مطلب لا غبار عليه، والعراقيون اليوم - برغم العنف والانقسام الطائفي والمذهبي - أكثر حرية مما كانوا عليه أيام حكم البعث المتسلط. ولكن ذلك ليس كافيا، فالإنسان يعيش ليحفظ آدميته من الامتهان لاسيما امتهان الفقر والعوز والحاجة. هناك أكثر من مليوني لاجئ عراقي في لبنان وسوريا والأردن يعانون أصعب الأوضاع، وهؤلاء بوسعهم العودة لو تحسنت الأوضاع الأمنية، وتوفرت البنية التحتية الضرورية. الأوروبيون لا يتذكرون أمريكا كثيرا لتحريرهم، فلربما حرروا أنفسهم من الاحتلال النازي بعد سنوات لاحقة من المقاومة، ولكنهم يتذكرون كيف غير مشروع "مارشال" لإعادة بناء أوروبا بعد الحرب حياتهم ونقلهم إلى حال أفضل. لقد كلف مشروع مارشال أقل من 119مليار دولار (بأموال اليوم) لإعادة إعمار 15دولة أوروبية خلال أربعة أعوام. بينما عجزت ال 117مليار دولار عن تحسين الوضع لما قبل الحرب في بلد واحد. قد يقلل المؤرخون من شأن حادثة حذاء عابرة، ولكنهم بالتأكيد لن يغفروا فشل الإدارة الأمريكية في بناء ما هدمته.