تمثل الشركات العائلية أحد الأعمدة التاريخية للاقتصاد الوطني، إذ كانت النواة التي أسهمت في بناء قطاعات التجارة والصناعة والخدمات عبر عقود؛ غير أن تحول العديد منها إلى شركات مساهمة عامة، أدخلها في مرحلة تتطلب فهماً جديداً للعلاقة بين الملكية والإدارة، وبين تكوين الثروة الخاصة ومراعاة العدالة في حقوق المستثمرين؛ فبعض الشركات العائلية المدرجة اليوم تواجه انتقادات متكررة بشأن ميل مجالس إدارتها إلى استغلال الهياكل المؤسسية لتعزيز المصالح الخاصة للأطراف ذات العلاقة، وأحياناً على حساب صغار المساهمين؛ ويتجلى ذلك في -مثلاً- ممارسات سيطرة أفراد من العائلة على عضوية مجلس الإدارة، بالتوازي مع المبالغة في مكافآت أعضائه، بجانب احتكارهم للمناصب التنفيذية الرئيسية أو عضويات اللجان الحساسة، أو ترسية العقود على كيانات مملوكة لأعضاء العائلة، أو استخدام عمليات الاستحواذ كأداة لخدمة مصالح ونفوذ داخلي على حساب أصحاب المصلحة، أو توظيف سياسة توزيعات الأرباح لتمويل توسعات غير مبررة اقتصادياً وتخدم مراكز قوى داخلية أكثر مما تخدم القيمة السوقية للشركة. وتظهر الإشكالية الكبرى حين تتحول الحوكمة من وسيلة لتنظيم العلاقة بين الملاك والإدارة إلى أداة شكلية تستخدم لتغطية القرارات الأحادية؛ فبدلاً من أن تكون لجان المراجعة والحوكمة مثلاً سداً أمام تضارب المصالح، تتحول إلى جهة تصديق تمرر من خلالها التعاملات الدورية مع أطراف لها ارتباط مباشر بالمسيطرين؛ وهنا تتآكل ثقة الشركة في السوق وتضعف شفافيتها، ما يؤدي على المدى البعيد إلى عزوف المستثمرين المؤسساتيين وارتفاع تكلفة رأس المال؛ أن مفهوم الحوكمة في جوهره ليس مجرد التزام لوائح أو إعداد تقارير سنوية أو لجان شكلية، بل هو ثقافة مؤسسية تعيد تعريف الولاء من كونه انتماء للعائلة إلى انتماء للكيان الاقتصادي ذاته؛ وتتحقق هذه الثقافة عندما يرسخ مجلس الإدارة مبدأ المساءلة، ويفعل دور المساهمين المستقلين في قرارات التعيين والمراجعة، وتكفل حماية المساهمين الأقلية من آثار القرارات ذات المصلحة المشتركة؛ فالنمو الاقتصادي الحقيقي لا يتحقق إلا في شركات تراعي حقوق جميع المساهمين والحوكمة الرشيدة وتدمج مبادئ الاستدامة في ممارساتها اليومية، مما يضمن استمرارية هذه الشركات وقدرتها على خلق فرص عمل ومشاريع اقتصادية عادلة تسهم في تطوير الاقتصاد الوطني؛ فالحوكمة المتوازنة ليست مجرد التزام تنظيمي، بل ركيزة أساسية لاستدامة النمو الاقتصادي والاجتماعي المنشودة في رؤية الوطن لبناء اقتصاد متنوع ومستدام يتميز بالشفافية والعدالة في بيئة الأعمال. ولعل من الواجب أن تراجع الجهات التنظيمية نصوص الإفصاح ومعايير الاستقلالية بما يعزز الشفافية الفعلية، لا الصورية؛ كما ينبغي على الشركات العائلية نفسها أن تتخذ خطوات حاسمة نحو تطوير آليات الحوكمة، وتوطيد مبدأ المحاسبة، والالتزام الكامل بمعايير الشفافية، وتطوير أدوات رقابية قادرة على كشف الأنماط غير العادلة في توزيع المنافع داخل تلك الكيانات المدرجة، فكلما زادت الرقابة المؤسسية، تضاءلت فرص الإضرار بحقوق المساهمين وتعززت الثقة في بيئتها الاستثمارية؛ فلا يضر بالشركات العائلية أن تحافظ على إرثها ونفوذها، بل الضرر يكمن في تغليب المصلحة الضيقة على النمو العادل والمستدام، فالتوازن بين ملكية العائلة وحقوق المساهمين هو الذي يصنع استقرار الكيان ويمنحه القدرة على البقاء جيلاً بعد جيل؛ فالتحول لن يحفظ فقط ثروة العائلات المؤثرة، بل سيحدث نقلة نوعية في رسم صورة إدارة هذه الشركات لتكون أكثر شفافية وجاذبية للمستثمرين، ويعزز من ثقتهم في السوق المالية المحلية، مما يدعم رسالة الوطن بوصفه بيئة استثمارية مستقرة ومنافسة.