يؤكد الكاتب، انطلاقًا من خبرته العملية في مسؤوليات الحوكمة داخل الشركات السعودية، أن الخلل ليس في مفهوم الحوكمة ذاته بقدر ما هو في طريقة فهمه وترجمته إلى واقع. فالحوكمة الحقيقية تُقاس بوضوح الصلاحيات، وسلامة مسارات اتخاذ القرار، وفاعلية إدارة الخلاف قبل تحوّله إلى نزاع. أمّا الاكتفاء بلوائح وهيكلة شكلية فيبقي الخطر كامناً ويؤجل المشكلة بدل حلّها. الفهم قبل الإطار تتبدّى فجوة التطبيق حين تُختزل الحوكمة في «التنظيم الورقي» بعيدًا عن مضمون السياسات واختبارات قابليتها للتنفيذ. والمعيار الصحيح يبدأ بتحديد ما المطلوب تغييره سلوكياً وتنظيمياً، ثم مواءمة الإجراءات مع طبيعة الكيان وحجمه، فإقرار مراحل تنفيذ واضحة ومسؤوليات محددة ومؤشرات قياس تعيد تغذية القرار وتصحّحه. منشآت صغيرة ومتوسطة وثقافة تنفيذ غائبة الإخفاقات الأكثر تكرارًا في المنشآت الصغيرة والمتوسطة تنشأ من غلبة «ثقافة النموذج» على «ثقافة الأداء». تُصاغ السياسات ثم تُركن، وتُعلن الهياكل ثم تُخرق. العلاج عملي: تشخيص فجوات الحوكمة الواقعية، بناء مصفوفة صلاحيات دقيقة، ربط الإجراءات بقدرات فرق العمل، وقياس الأثر على النتائج التشغيلية قبل المباهاة بالأوراق. في الشركات المساهمة: العثرة تبدأ من غياب المساءلة لا تُختزل الأخطاء في قرار واحد، بل في سياق يسمح بتداخل أدوار المالك ومجلس الإدارة والإدارة التنفيذية. حين يغيب الفصل المؤسسي تصبح القرارات شخصية، وتتذبذب الاستمرارية رغم متانة المراكز المالية. المساءلة المنتظمة، وتحديد خطوط السلطة، وتوثيق أسباب القرار ومآلاته؛ جميعها تحوّل الحوكمة من شعارات إلى ممارسة رادعة للمخاطر. المساهم شريكٌ يُسائل لا ممولٌ ينتظر العائد تطوّرت الممارسات الحديثة حتى غدا المساهم طرفًا أصيلًا في معادلة الحوكمة. تمكينه من المعلومة في وقتها، حماية حقوق الأقلية، والعدالة في المعاملة؛ ليست ترفًا تنظيميًا بل صمّام أمان للشركة نفسها. فاهتزاز الثقة أخطر من أي خسارة مالية، ومن يتجاهله يكتشف حجم الكلفة متأخرًا. مجلسٌ يقود ولا يمرّر التحدي ليس في تشكيل المجلس بل في أدائه، المجلس الفعّال يوجّه الاستراتيجية، يسائل في التوقيت الصحيح، ويتابع التنفيذ بصرامة. الاستقلال الحقيقي للأعضاء، وتنوع الخبرات، ووضوح العلاقة مع الإدارة التنفيذية؛ هي الفوارق بين مجلسٍ موجود بالاسم وآخر يصنع قيمة مستدامة للكيان. الشفافية: ضرورة تنافسية لم يعد الاستثمار يبحث عن أرقام جميلة فحسب؛ بل عن وضوح في المخاطر، وإفصاح عن المكافآت والمعاملات ذات العلاقة وهيكل الملكية. هذه الإفصاحات عنصر طمأنة تعزّز السمعة وترفع كلفة الإخفاء. كما أن المتلقي اليوم يقيس جودة الإدارة بمدى قدرتها على تفسير قراراتها قبل أن تُساءل عنها. الاستدامة جزء من معادلة الأداء تعذّر الفصل بين النتائج المالية والمسؤولية تجاه العاملين والمجتمع. الشركات التي ترى الاستدامة عبئًا مؤجّلًا تفقد مرونتها وتتعثر في التطوير، بينما يثبت دمج اعتبارات البيئة والمجتمع والحوكمة في القرار اليومي قدرةً أكبر على التكيّف والصمود في البيئات المتقلبة. خريطة تنفيذ مختصرة تبدأ خريطة التنفيذ بتشخيصٍ دقيقٍ لفجوات الحوكمة وربطها بمخاطر النشاط وحجمه، يتبعه إعدادُ مصفوفةِ صلاحياتٍ تفصل بوضوح بين المالك ومجلس الإدارة والإدارة التنفيذية. ثم تُعتمد مواثيقُ للمجلس ولجانه تحدد الأدوار ومسارات التقييم وآليات المساءلة، وتُقر سياسةُ إفصاحٍ واستجابةٍ للمستثمرين بمواعيد ومسؤوليات محددة. ويُدمج إطارُ إدارة المخاطر في التخطيط السنوي والميزانية ومراجعات الأداء الدورية، وتُستكمل منظومةُ الحوكمة بمؤشرات نضج تُراجع دوريًا وتُربط بالحوافز لضمان التحسين المستمر. ختامًا الحوكمة ليست عبئًا قانونيًا ولا إجراءً ظرفيًا، بل طريقة تفكير تُبنى في الثقافة قبل أن تُكتب في اللوائح. ومن يتعامل معها بهذه العقلية لا يكتفي بتخفيف المخاطر، بل يضع أساسًا حقيقيًا للاستمرار والنجاح والاستدامة طويلة الأجل.