في صمت الرمال، وبين تضاريس الصخر، وجنون التنوع تتحدث المملكة العربية السعودية بلغة التاريخ، وموطن الحضارات المتعاقبة، وشاهد حي على ولادة الإنسان، وتطور العمران، وتلاقي الثقافات. تسعى المملكة، من خلال رؤية 2030، إلى إعادة تعريف موقعها الحضاري عالميًا كأرض زاخرة بالإرث الإنساني، والمادي والطبيعي، وقد باشرت الجهات المختصة، كمنظومة الثقافة، في خطوات نوعية للحفاظ على الآثار، وتسجيلها في قائمة التراث العالمي (اليونسكو)، لتصبح هذه المواقع رواة لقصة وطن لم ينقطع عن التاريخ. ليست مجرد قرية تقف عند سفح التاريخ، بل ذاكرة صخرية تحوّلت إلى تحفة، تحمل في تفاصيلها تجليات العمارة الجبلية، وجماليات الإنسان وهو يصوغ المأوى من وعورة الأرض، فكل زاوية تنطق، وكل شرفةٍ تسرد، وكل حجرٍ يحتفظ ببصمة يدٍ حفرت الحياة بكل قسوة. «هوية المكان» تقع قرية شبرقة في محافظة بني حسن بمنطقة الباحة، على الطريق الرابط بين الباحة ومحافظة المندق، لتشكل بهذا التواصل نقطة وصل بين الذاكرة والدهشة، ترتفع عن المدينة نحو 15 كيلومترًا فقط، لكنها ترتفع أكثر في رمزية حضورها وهويتها. من جبال السراة ولدت شبرقة، لتكون انعكاسًا صادقًا للطبيعة القاسية، واليد الحانية التي تروضها. ما يُلفت في هذا التجمع العمراني هو الانسجام البديع بين تضاريس الجبل والمباني المتلاصقة، التي تتسلق الصخور في حنكة معمارية ووعيٍ بيئي تدل بجلاء إنه هناك إياد مبدعة. وهندسة متقنة، وتوافق فذ بين الطبيعة والإنسان. «الحجر الأزرق» البيوت القديمة في شبرقة، تقدم وكأنها نسيج عمراني واحد، يظهر من بعيد كقلعةٍ شيدتها يد واحدة من خلال تراصٌّ حجري بديع، يعلوه برج مربع الشكل، هرمي في هندسته، وأبيض في طلائه، بلمسة جديرة بالبقاء. الحجارة المستخدمة في البناء، بركانية بطبيعتها، متنوعة في ألوانها وأشكالها، ولكنها رُصفت بتوازن دقيق، يشير إلى خبرة عمرانية، ولم تكن الأدوات هي السر، بل الحِرفة، العين، واليد، والتاريخ. «النقوش إبداع شاهد» شبرقة تهمس بكل تفاصيلها بروح فنية رفيعة. فالنقوش التي تزيّن النوافذ والأبواب لغة النقاشين، الذين حولوا الخشب إلى قصائد صامتة. تلك الزخارف تحاكي أوراق الأشجار، وتتماهى مع خطوط الطبيعة. والشرفات، التي صُنعت من جذوع الأشجار، تنفتح على الفضاء وكأنها تقول: «هنا نعيش، وهنا نُبصر الجمال كل يوم». في شبرقة، ما من عنصر معماري وُضع لمجرد الوظيفة، بل كل قطعة تأخذ شكلها من وعي بصري وجمالي راسخ، فكأنها دروس خفية في التصميم المعماري المحلي. «بين الأطلال» رغم ما أصاب بعض المباني من تهدمٍ جزئي أو هجرٍ طويل، تظل شبرقة حيّة في إحساسها، نابضة في وجدان من يزورها. فهي من القرى التي لا تموت، حتى إن طالها الغياب، لأن طابعها المعماري وفلسفتها الحضرية لا تشيخان. التحول البصري الناتج عن المباني الحديثة التي طوقت التجمع الأثري في الأعالي، لم يستطع أن ينتقص من هوية شبرقة. بل، زادها تحديًا في الحفاظ على نسيجها، وجعلها أكثر فرادة وسط التغيرات. فهي ليست تراثًا فقط، بل مشروع حياة، يمكن أن يُرمم، ويُعاد تأهيله، ويُفعّل كسياق سياحي وثقافي يستقطب العابرين والمهتمين والباحثين عن المعنى في العمارة. «شبرقة.. من الأطلس الحجري إلى المستقبل» ليست شبرقة مجرد قرية منسية على خارطة التراث، بل وجهة واعدة يمكن أن تتحوّل إلى مركز حيوي في السياحة الجبلية، والثقافة المعمارية، وتوثيق الحِرف التقليدية. فهي مختبر مفتوح لطرازٍ عمراني يندر مثيله، ومدرسة في بناء المكان على صعوبة المكان. ومن هنا، تصبح شبرقة مادة للمستقبل عبر الترميم الواعي، والتأهيل الإبداعي، والمبادرات التنموية المدروسة، وكيف لهذه القرية أن تتحول إلى منصة تعليمية وسياحية حية. فالقرية بحاجة إلى من يقرأها، ويُعيد اكتشافها، ويؤمن أن في الطين والحجر واللبن دروسًا تليق بالعصر القادم. ختاماً، في زمنٍ تتشابه فيه المدن، وتغيب فيه الهويّات، تقدم لنا شبرقة مثالًا على التفرّد. بصفتها نموذج حيّ لقدرة الإنسان على أن يبتكر حتى في أحضان الصخور، فهي قصة من الجنوب، تُروى بالحجارة وتُبنى من جديد.