في عالمٍ تتسارع فيه التحولات الفكرية والسياسية والدينية، وتتعاظم فيه الأسئلة حول علاقة الدين بالحداثة، والهوية بالانفتاح، والأخلاق بالسلطة، تبرز الحاجة إلى أصواتٍ فكرية رصينة تمتلك الشجاعة المعرفية والعمق الروحي معًا. ومن بين هذه الأصوات يظل أ.د.مصطفى سيريتش -مفتي البوسنة والهرسك سابقاً- واحدًا من أبرز الرموز الإسلامية الأوروبية التي جمعت بين الفقه والفلسفة، وبين التجربة الدينية والواقع الإنساني المعاصر، ولا يأتي هذا الحوار بوصفه لقاءً تقليديًا مع عالم دين، بل مساحة فكرية مفتوحة، نسعى من خلالها إلى استنطاق تجربة فريدة نشأت في قلب أوروبا، وتشكّلت تحت وطأة الحروب، وتفاعلت مع أسئلة الهوية والعيش المشترك، والتسامح، والعدالة، وكرامة الإنسان، وهي تجربةٌ لا تكتفي باستدعاء الماضي، بل تنخرط بوعيٍ عميق في أسئلة الحاضر واستشراف المستقبل. «الرياض» التقت د.سيريتش خلال استضافة المملكة لأعمال المنتدى العالمي الحادي عشر لتحالف الأممالمتحدة للحضارات -UNAOC-، وتحدث عبر اللقاء عن مكانة المملكة في العالم الإسلامي، في ظل ما تشهده من تحولات فكرية وتنموية متسارعة، وأبرز مبادراتها التي انعكست إيجابًا على المجتمع البوسني، وكيف أسهمت في ترسيخ الوسطية ومواجهة التطرف، وفيما يلي نص الحوار. موقع محوري * د. كيف تقيّمون اليوم مكانة المملكة في العالم الإسلامي، في ظل ما تشهده من تحولات فكرية وتنموية متسارعة؟ * المملكة تحتل اليوم موقعًا محوريًا في العالم الإسلامي، ليس فقط بوصفها مهبط الوحي وقبلة المسلمين، بل أيضًا كدولة تقود مشروعًا متكاملًا للتحديث المتوازن الذي يجمع بين الأصالة الدينية والانفتاح الحضاري، وما نشهده من تحولات فكرية وتنموية في المملكة يعكس وعيًا عميقًا بمتطلبات العصر، وإدراكًا لمسؤولية تاريخية تجاه الأمة الإسلامية والعالم أجمع، لقد عانى المسلمون في مناطق كثيرة، ومنهم مسلمو البوسنة والهرسك، من محاولات طمس الهوية وتشويه الدين وربطه بالتطرف، بينما تقدم المملكة اليوم نموذجًا عمليًا يثبت أن الإسلام قادر على التعايش مع الحداثة، وأن التنمية لا تتعارض مع القيم، وهذه الرسالة بالغة الأهمية لشعوب خرجت من ويلات الحروب والاضطهاد، وتبحث عن أمل حقيقي، إن التحول السعودي، بما يحمله من إصلاحات تعليمية وثقافية واقتصادية، يعزز ثقة المسلمين بأن مستقبلهم يمكن أن يكون مختلفًا، وأن القيادة الواعية قادرة على تحويل التحديات إلى فرص، ومن هذا المنطلق، فإن مكانة المملكة لم تعد رمزية فحسب، بل أصبحت فاعلة ومؤثرة في تشكيل الوعي الإسلامي المعاصر. يد العون * للمملكة حضور إنساني وخيري مؤثر، كيف ترون أثر هذا الدور في البوسنة والهرسك؟ * لا يمكن الحديث عن البوسنة والهرسك دون استحضار سنوات الألم والاضطهاد التي عاشها شعبها، خصوصًا خلال حرب التسعينيات، حين تعرض المسلمون لمجازر وتهجير قسري ومحاولات إبادة ممنهجة، في تلك اللحظات العصيبة، كانت المملكة من أوائل الدول التي مدت يد العون، ليس بدافع سياسي، بل انطلاقًا من مسؤولية إنسانية وأخلاقية، والدعم السعودي لم يقتصر على الإغاثة العاجلة، بل امتد إلى إعادة بناء المساجد، والمدارس، والمؤسسات الاجتماعية، ما أسهم في ترميم النسيج المجتمعي وحفظ الهوية الإسلامية للبوسنيين، وهذا الدعم كان رسالة واضحة بأن الشعب البوسني لم يكن وحده في محنته، والأثر الحقيقي لهذا الدور يتجلى اليوم في أجيال نشأت على قيم الاعتدال، بعيدًا عن روح الانتقام، ومتصالحة مع محيطها الأوروبي، والمملكة من خلال هذا النهج، لم تداوِ جراحًا مادية فقط، بل ساعدت في شفاء جراح نفسية عميقة خلّفها الاضطهاد والحرب. شعب البوسنة يشيدون بجهود المملكة في الحرب الأهلية وسعيها لتضميد الجراح أثر مستدام * ما أبرز المبادرات السعودية التي انعكست إيجابًا على المجتمع البوسني؟، وكيف تسهم الجهود السعودية في ترسيخ الوسطية ومواجهة التطرف؟ * من أبرز ما يميز المبادرات السعودية في البوسنة والهرسك أنها ركزت على الإنسان قبل البنيان، دعم التعليم الديني المعتدل، وبناء المراكز الثقافية، وتمكين الأيتام والأسر المتضررة، كلها مبادرات تركت أثرًا مستدامًا، بعد سنوات من القمع، كان الشعب البوسني بحاجة إلى استعادة ثقته بنفسه وهويته، والمملكة أسهمت في ذلك عبر مشاريع أعادت الاعتبار للعلم والمعرفة كوسيلة للنهوض، هذه المبادرات أسهمت في تحصين المجتمع من الأفكار المتطرفة، وأعادت توجيه الطاقات نحو البناء والتعايش، إن ما يميز الدور السعودي هو الاستمرارية، وعدم التعامل مع البوسنة كملف مؤقت، بل كجزء من نسيج الأمة الإسلامية، يستحق الدعم طويل الأمد، والشعوب التي عانت من الاضطهاد تكون أكثر عرضة للانغلاق أو التطرف، وهذا ما أدركته المملكة مبكرًا، من خلال دعم خطاب ديني متوازن، وتعزيز التعليم الوسطي، وأسهمت السعودية في تقديم بديل فكري يحمي المجتمعات الخارجة من النزاعات، والتجربة البوسنية تثبت أن الوسطية ليست شعارًا، بل ممارسة عملية، وأن الدعم الفكري لا يقل أهمية عن الدعم المادي. المملكة قدمت نموذجًا يحتذى به في هذا المجال، وهو ما نراه اليوم في مبادراتها العالمية. مشاركة واسعة * كيف تنظرون إلى أهمية الحوار بين الأديان، خاصةً مع استضافة المملكة منتدى تحالف الحضارات -UNAOC-؟ * استضافة المملكة لأعمال المنتدى العالمي الحادي عشر لتحالف الأممالمتحدة للحضارات -UNAOC-، حفل بمشاركة دولية واسعة تضم قادة دول، ومسؤولين أمميين، وصناع قرار، ومفكرين، وشبابًا من مختلف دول العالم، وذلك تحت شعار: "عقدان من الحوار من أجل الإنسانية، وتعزيز حقبة جديدة من الاحترام المتبادل والتفاهم في عالم متعدد الأقطاب"، وهذه الاستضافة تعكس إدراكًا عميقًا لأهمية الحوار في عالم يعاني من الانقسامات، ونحن في البوسنة نعرف جيدًا ثمن غياب الحوار، فقد دفع شعبنا ثمن الكراهية وسوء الفهم، والمملكة اليوم تقود منصة عالمية تؤكد أن التعايش ليس خيارًا ثانويًا، بل ضرورة إنسانية، وهذا المنتدى يبعث برسالة أمل لكل الشعوب التي عانت من الاضطهاد بأن الحوار يمكن أن يكون جسرًا للسلام. احترام وتكامل * ما دلالات التقارب الثقافي بين الشعبين السعودي والبوسني، وكيف تقرؤون دور القيادة السعودية تجاه قضايا المسلمين عالميًا؟ * التقارب بين الشعبين يتجاوز السياسة إلى القيم، كلا الشعبين يؤمن بأهمية الأسرة، والدين، والكرامة الإنسانية، هذا التقارب يعزز فهمًا متبادلًا، ويسهم في بناء علاقات قائمة على الاحترام والتكامل، والقيادة السعودية تتحمل مسؤولية أخلاقية كبرى، وتتعامل مع قضايا المسلمين بمنظور إنساني شامل، وهو ما يمنحها مصداقية واحترامًا عالميًا، خاصة لدى الشعوب التي ذاقت ويلات الاضطهاد، والذي يميز التجربة السعودية في دعم الاستقرار عالمياً، أنها تجمع بين القوة الناعمة والحكمة السياسية، وتقدم نموذجًا في تحويل الأزمات إلى فرص، وهو درس مهم لدول خرجت من الحروب مثل البوسنة، ويحمل التعاون السعودي البوسني رسالة مفادها أن التضامن الحقيقي قادر على تجاوز الجغرافيا، وأن دعم الشعوب المظلومة هو استثمار في السلام العالمي، واستقلال العالم الديني لا يتحقق بالعزلة، بل بالوضوح الأخلاقي، وعندما يدرك العالم أن ولاءه الأول هو للقيم، لا للسلطة، يصبح صوته حرًا حتى وهو في قلب العاصفة، الدين يفقد معناه عندما يتحول إلى أداة تبرير، ويستعيد جوهره عندما يكون صوت ضمير، وليست المشكلة في الماضي، بل في طريقة التعامل معه، فالماضي مصدر إلهام لا سجن، وعندما نقرأ تراثنا بعقل نقدي وروح مسؤولة، يتحول إلى طاقة بناء، أما تقديس الفهم البشري للتاريخ، فهو ما يعطل قدرتنا على التجدد، والمسلمون في أوروبا يستطيعون أن يوازنوا بين الحفاظ على هويتهم الدينية والاندماج الكامل في مجتمعاتهم، والهوية الحقيقية لا تخاف من الاندماج، والمسلم الواثق من قيمه يستطيع أن يكون مواطنًا صالحًا دون أن يتنازل عن دينه، والإسلام لم يكن يومًا نقيضًا للمواطنة، بل داعمًا لها حين تُبنى على العدالة والاحترام المتبادل، والرسالة التي أود توجيهها للشباب المسلم الذي يعيش حالة من الحيرة بين تطرفٍ ديني وفراغٍ قيمي، أقول لهم لا تسمحوا لأحد أن يسرق إنسانيتكم باسم الدين، ولا أن يفرغ حياتكم من المعنى باسم الحداثة. والإسلام دعوة للعقل، وللحرية المسؤولة، وأن يكونوا جسرًا لا ساحة معركة، وقد يسأل سائل لي شخصياً: بعد كل ما شهدته من حروب وصراعات، هل ما زلت أؤمن بإمكانية التعايش الحقيقي بين الأديان؟، فأجيب: لو لم أؤمن بذلك، لفقدت إيماني بالإنسان، فالتعايش ليس خيارًا ترفيًا، بل ضرورة أخلاقية، والأديان وُجدت لتصون الكرامة الإنسانية، لا لتتنافس على الدماء، السلام يبدأ حين نعترف بإنسانية الآخر قبل اختلافه. شرف عظيم * ماذا يمثّل لكم منحكم الجنسية السعودية؟ * منحي الجنسية السعودية شرف عظيم أعتز به، ومن خلال هذا المنبر أكرر شكري وتقديري لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وكذلك لسمو ولي العهد الأمين الأمير محمد بن سلمان -رعاه الله-، سائلاً الله تعالى أن يحفظ المملكة وقيادتها وأن يوفقني لخدمة هذا الوطن العظيم، وهذا الشرف بمنحي الجنسية أراه تكريمًا معنويًا لمسيرتي الفكرية، ورسالة تقدير للشعب البوسني الذي عانى طويلًا، وهذا الشرف أعده رسالة تؤكد أن المملكة لا تنسى من وقف معها، وأنها تحتضن كل من يؤمن بقيم السلام والحوار، ومن خلال منبر "الرياض" كذلك أود أن اختتم اللقاء بالإشادة بجهود المملكة الخالدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين، وسمو ولي العهد -حفظهما الله– المقدمة للعالم الإسلامي عامة ولشعب البوسنة والهرسك خاصةً، فهم دائماً يشيدون بجهود المملكة وأياديهم البيضاء إبان الحرب الأهلية وسعيها لتضميد الجراح ومساعدة المحتاجين، وكان يشرف على كل الجهود خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان -عندما كان أميرًا لمنطقة الرياض آنذاك-، كما يشرف على بناء المستشفيات الميدانية والمدارس والمراكز وإعادة ترميم المساجد، بالإضافة إلى علاج مصابين الحرب، وتقديم المساعدات العينية للأسر المتضررة وبرامج رعاية الأيتام، ولا ننسى دور المملكة في إنشاء مركز الملك فهد الثقافي في سراييفو والذي يعد أحد الصروح الثقافية الشامخة في منطقة البلقان وأكبرها لنشر الثقافة والوسطية وتقديم ما يمكن في البوسنة والهرسك والدول المجاورة، حيث يسهم بذلك منذ افتتاحه، والشعب البوسني يحفظ للمملكة ووقوفها وجهودها الخيرية في محنتها والتي شملت يد الخير والعون في كافة أرجاء البوسنة والهرسك وعم نفعها الجميع باختلاف فئاتهم. مركز الملك فهد الإسلامي صرح شامخ لنشر الثقافة والوسطية