كلما حطت رحالي في عروس البحر الأحمر، أتذكر عبارة سمعتها مذ كنت صغيرةً مفادها أنّ من أراد استراحة من الحياة فليذهب إلى جدة. هذه المدينة الساحرة التي طالما استقبلت السفن والتجار والرحلات، تستقبل اليوم آلاف الكتب والأفكار من خلال معرض جدة للكتاب 2025 تحت شعار «جدة تقرأ»، بمشاركة أكثر من 1000 دار نشر تمثل أربعاً وعشرين دولة. معرض فخم يزخر بالفعاليات الثقافية والأمسيات الشعرية والجلسات الحوارية والورش التدريبية، كان لي شرف تقديم واحدة منها. وعند بوابة المعرض، شعرت كأنني واقفة أمام البحر، أستعد للإبحار في أعماق الأدب والعلوم والفكر، وأحسست أن كل كتاب سفينة، وكل قارئ بحّار، وكل لحظة قراءة هي موجة جديدة تستحق التأمل. ولست أدري هل أحدثكم عن حسن التنظيم أم عن بهاء الحضور وروعة الأجواء أم عن المبنى الهندسي الجميل الذي احتضن المعرض؟ «جدة سوبر دوم» هو أكبر مبنى بلا أعمدة، وأكبر قبة كروية فراغية، وأوسع قبة بسقف متصل في العالم، بتصميم فريد كأنه نسيج حضارة متماسك، وكأن القائمين على المعرض اختاروا المكان لإيصال رسالة أن الكتب بتنوع علومها وتعدد آراء مؤلفيها واختلاف مشاربهم، هي الخيوط التي تنسج لوحة متكاملة من المعرفة والمعاني، وأن القراءة هي عماد أي بنيان، وهي الحصن الذي يحمي الأمم من السقوط والانهيار. وإن كان من رسالة لأصحاب الشأن، فهي ألا تمر هذه المعارض مرور الكرام أو تُعامل كحدث سنوي عابر، وألا ننتظر أن يعلم الناس بها ليأتوا إليها، بل نحن من نعلمهم، أن نخبر شبابنا في الجامعات وطلاب المدارس أن ثمة معرض جليل القدر كبير القيمة عظيم الأثر، لا يفوتنّكم، فقد وجد لأجلكم. ففي غمرة الحياة وصخبها قد ينشغل حتى المهتمون عن الاستعداد له مبكراً. هنيئاً لكل من استطاع زيارة المعرض، وأكاد أجزم أنه فور دخوله سيرفع رأسه عالياً، انبهاراً بالقبة الشاهقة، واعتزازاً بالكتاب، وفخراً بوطن عظيم جعل الثقافة في قلب المشهد. وهنيئاً لجدة التي جعلت من البحر كتاباً مفتوحاً ومن الكتاب بحراً لا ساحل له، ولا زالت تثبت يوماً بعد يوم أنها دوماً سوبر وغير.