تجربة الاغتراب فتحت أفقًا جديدًا وصنعت شخصية أكثر صلابة واتزانًا صنعت إرثًا داخل أرامكو وخارجها في ذلك الزمن الذي كانت فيه المهن الهندسية في السعودية حصنًا ذكوريًا لا تكاد تقترب منه النساء، كانت فتاة صغيرة في الرياض تخطو خطواتها الأولى داخل منزل تحكمه الصرامة ويعلو فيه صوت الانضباط قبل أي شيء آخر. لم تكن تتوقع يومًا أن تصبح إحدى أقوى الأسماء النسائية في قطاع الطاقة عالميًا، وأن تقود مشاريع بمليارات الدولارات، وتساهم في بناء أعمدة التحول الصناعي للمملكة. لم تكن تدري أن ذلك الانضباط، الذي ظنّته يومًا عبئًا ثقيلًا، سيشكّل لاحقًا الأساس الذي بُنيت عليه شخصية قيادية صلبة تحمل اسم نبيلة التونسي. وُلدت نبيلة في 11 يناير 1959 بالرياض، في منزل يعرف كل فرد فيه معنى الواجب قبل الراحة. كان والدها اللواء مكي التونسي، أحد ضباط الجيش السعودي الذين لا يؤمنون بأن النجاح يأتي صدفة، بل يأتي نتيجة الجد والالتزام. كانت ساعات اليوم موزعة بدقة: وقت للدراسة، وقت للطعام، وقت للقراءة، وحتى وقت للصمت. وفي هذا المناخ العسكري الحازم بدأ وعي نبيلة يتكوّن، وعقلها الصغير يدرك أن الحياة لا تمنح شيئًا مجانًا. تجربة غيّرت المسار لكن الانعطافة الأولى في قصتها جاءت حين كانت في الثانية عشرة، عندما انتقلت العائلة إلى مدريد بعد تعيين والدها ملحقًا عسكريًا في السفارة السعودية. وجدت نفسها في عالم لا يشبه شيئًا مما عرفته: لغات متعددة، ثقافة مختلفة، مدارس بنظام لم تعهده. التحقت بمدرسة أمريكية–إسبانية، وبدأت معركة يومية لتعلّم لغة جديدة وسط خوف دفين من أن تفقد لغتها العربية. كانت تدرس الإنجليزية والإسبانية نهارًا، والعربية ليلًا، كأنما ترفض أن تتخلى عن أي جزء من هويتها. كان ذلك الامتحان المبكر أول تجربة تصنع جلدها الداخلي وتزيد صلابتها ومرونتها. وعندما عادت إلى الرياض في سن الخامسة عشرة، لم تعد تلك الفتاة التي غادرت؛ كانت محملة بخبرات إنسانية وشخصية جعلت رؤيتها للحياة أكثر اتساعًا. ولم يكن غريبًا بعدها أن تختار، بلا تردد، دراسة الهندسة، رغم أن هذا القرار في سبعينيات القرن الماضي كان خطوة غير مألوفة لفتاة سعودية. لكن الشغف الذي بدأ يكبر بداخلها، والرغبة في سبر عالم التقنية، دفعاها للسفر إلى الولاياتالمتحدة، إلى ولاية أوريغون تحديدًا حيث يدرس شقيقها. في كلية لويس آند كلارك، جلست في أول اختبار لها أمام لوح مفاتيح الحاسوب، لتتلألأ شرارة مختلفة داخل نفسها. كانت تلك اللحظة بالنسبة لها أشبه بفتح باب لكون كامل من الاحتمالات. تقول لاحقًا إنها شعرت بفضول لم تعرفه من قبل، رغبة في أن تفهم آلية عمل تلك الآلة التي تخبرك فورًا إذا أخطأت. من تلك اللحظة لم تعد الهندسة تخصصًا جامعيًا، بل طريقًا ستسير فيه بقلب ممتلئ بالشغف. بداية صناعة الذات حصلت على بكالوريوس الهندسة الكهربائية والحاسوب من جامعة بورتلاند عام 1980، ثم ماجستير هندسة الحاسوب من جامعة ولاية أوريغون، قبل أن تلتحق لاحقًا ببرامج قيادية متقدمة في جامعة فيرجينيا وستافورد. لم تكن الشهادات مجرد أوراق تضاف إلى ملفها، بل كانت نوافذ قذفت بها إلى عالم أكثر ديناميكية وتعقيدًا. كانت محطتها التالية حدثًا غيّر مسار حياتها بشكل مبكر. قدّم لها أحد مسؤولي شركة Apple عرضًا للعمل معهم وهي في بداية الثمانينيات، لكن الصورة التي كانت تراها الشركة بها لم تكن قد اتضحت بعد في ذهنها. كانت تبحث عن أفق أكبر، مشروع بوزن دول، لا شركة ناشئة، حتى لو كانت تلك الشركة ستصبح لاحقًا واحدة من أهم شركات العالم. رفضت العرض، وعادت إلى السعودية. لكن القدر كان يفتح لها بابًا آخر. وبواسطة قريب يعمل في الجيش، التقت بالوزير زكي يماني، الذي رأى في الشابة العائدة من أمريكا شيئًا مختلفًا. وبعد لقاء قصير، وجدت نفسها أمام فرصة الانضمام إلى أرامكو... الشركة التي ستصبح طوال أربعة عقود مسرحًا لإنجازاتها. في خريف عام 1982، دخلت نبيلة ممرات أرامكو كأول امرأة تُعيّن في قسم تقنية المعلومات بعد حصولها على الماجستير. بيئة ثقيلة، لغة عمل رجالية، اجتماعات يغلبها الطابع الصارم، لكن حضورها الهادئ وذكاءها الحاد جعلا الزملاء ينظرون إليها باعتبارها مهندسة لا تقل كفاءة عن أي منهم. بدأت كمهندسة نظم معلومات، ثم انتقلت إلى إدارة المشاريع، وهناك بدأت رحلتها الصعبة نحو القيادة. اختبارات تصنع القيادية كانت سنواتها الأولى مليئة بالتحديات. بين 1984 و1996، تنقلت في مناصب متقدمة، لكنها في كل موقع كانت تترك أثرًا مختلفًا. ترأست تخطيط شبكات الكهرباء وتقنية المعلومات، وأطلقت مبادرات أسهمت في إعادة هيكلة التقنية داخل الشركة، بما في ذلك خلق فريق موحد من الخبراء والمستخدمين لابتكار حلول أكثر كفاءة. ولم يعتد كبار المهندسين رؤية امرأة تتقدم عليهم في القرارات الفنية، لكن أداءها الممتاز كان يفرض نفسه. ثم جاء اختبارها الأبرز وهي في السابعة والعشرين، حين أوكلت لها الشركة مشروعًا بقيمة سبعة ملايين دولار مع شركة KBR في هيوستن لمراقبة تسريبات الغاز. تعلمت هناك أسرار العقود وآليات التفاوض وحماية الميزانيات. وبينما كانت في بوسطن تشارك في مؤتمر تقني، اكتشفت وجود تقنية أحدث مما يعمل عليه فريقها. اتخذت قرارًا جريئًا بإلغاء المشروع القديم واعتماد الجديد رغم اعتراض المقاولين. كان ذلك القرار الشرارة التي رسخت اسمها داخل أرامكو كقيادية لا تتردد أمام الحقائق، حتى لو كانت مكلفة. رؤية تتجاوز حدود الهندسة في أحد مشاريع تحسين استهلاك الطاقة، كانت تجتمع مع فريقها حتى ساعات الفجر بحثًا عن حل لمشكلة استنزاف الطاقة في مصانع الغاز. خرجوا بفكرة استخدام الحرارة المنبعثة من العوادم لتوليد طاقة جديدة، وهو ما خفّض الانبعاثات وكلف التشغيل. تلك الحلول الابتكارية كانت سببًا في تسميتها داخل الشركة ب"مهندسة الحلول". لكن الحقل الذي تركت فيه بصمة واضحة كان مشروع منيفة العملاق، الذي بلغت تكلفته 17 مليار دولار. شاركت في تصميم الممر البحري بطول 41 كيلومترًا لربط 27 جزيرة صناعية بطريقة تقلل التأثير البيئي. واليوم ينتج الحقل نحو 900 ألف برميل يوميًا، ما يجعله أحد أهم مشاريع الطاقة في العالم. ولم يكن مشروع صدارة أقل ضخامة، بل ربما كان أهم محطة قيادية في حياتها. في 2007، بعد إتمامها برنامج ستانفورد للإدارة، عُرض عليها الإشراف على هذا المشروع المشترك بين أرامكو وDow Chemical، بقيمة 20 مليار دولار، والذي غيّر مستقبل الصناعة الكيميائية في السعودية، وفتح الباب أمام الصناعات المتقدمة التي تعتمد على منتجات البولي يوريثان وغيرها. شكّل المشروع نقلة صناعية تعزز استقلال الاقتصاد السعودي وتنويع مصادر دخله. ومع صعود رؤية المملكة للتحول الوطني، انتقلت خبراتها من أرامكو إلى مشاريع الدولة الكبرى، فكانت الرئيس التنفيذي للطاقة والمياه في نيوم عام 2018، ثم المديرة التنفيذية لبرامج الديوان الملكي منذ 2019، وعضو مجلس إدارة معادن، إضافة إلى عضوية الهيئة السعودية للمهندسين ومجلس أمناء جامعة دار الحكمة. قيادة تصنع الانضباط هذه المناصب لم تكن أوسمة، بل كانت امتدادًا لمسيرة اعتادت فيها الوقوف في الميدان أكثر من الجلوس خلف المكاتب. كانت ترافق الرئيس التنفيذي لأرامكو أمين الناصر في زيارات شهرية لمنشآت الشركة، وتدخل في نقاشات أسبوعية مع مديري 155 منشأة حول السلامة والكفاءة. صرامتها أثارت رهبة عند البعض، لكنها صرامة للإتقان لا للتعالي. وفي خلفية هذا الانشغال المهني الهائل، كانت نبيلة تحافظ على نمط يومي لا يشبه حياة كبار التنفيذيين. تستيقظ عند الرابعة والنصف فجرًا، تمارس السباحة أو رياضة أخرى، ثم تسير نحو عملها بخطوات ثابتة. كانت تؤمن أن صحة العقل تبدأ من صحة الجسد، وأن المسؤولية القيادية تحتاج إلى قدر كبير من الانضباط الذاتي. وخلال سنواتها الطويلة، توالت عليها التكريمات: من بين أفضل 25 امرأة في إدارة المشاريع على مستوى العالم عام 2006، أقوى امرأة عربية في الإدارة التنفيذية وفق فوربس الشرق الأوسط عام 2014، و"جائزة المرأة العربية للطاقة" في 2015، وغيرها. لكن أكثر ما يميز نبيلة ليس الجوائز ولا المناصب، بل تلك الجملة التي قالتها يومًا: «لم أدخل أرامكو لأكون أول امرأة... دخلت لأن لدي شيئًا أقدّمه.» جملة تكشف جوهر شخصيتها؛ فهي لم تكن تبحث عن لقب رائد ولا عن اعتراف اجتماعي، بل عن مساحة تعمل فيها وتُثبت نفسها. اليوم، حين تُروى قصص التحول السعودي، يبقى اسم نبيلة التونسي واحدًا من أبرز الأسماء التي حملت الراية مبكرًا، وشقّت الطريق لغيرها من النساء في قطاع الطاقة والهندسة. قصة امرأة آمنت بأن المستقبل لا ينتظر أحدًا، وأن الجرأة في اتخاذ القرار هي حجر الأساس لكل نهضة.