تعزيز تكافؤ الفرص بين الجنسين مسار تنموي يعيد صياغة التعليم وبناء الإنسان في عالمٍ تتسارع فيه التحولات المعرفية والتقنية، لم يعد التعليم حكرًا على الصفوف الدراسية أو مرتبطًا بمرحلة عمرية محددة، بل أصبح مسارًا ممتدًا يواكب الإنسان في مختلف مراحل حياته. ومن هنا يبرز مفهوم «مدن التعلم» كأحد أكثر النماذج حداثة وفاعلية في بناء مجتمعات قادرة على التكيّف، والابتكار، واستدامة التنمية. فمدينة التعلم ليست مجرد مكان تُقام فيه مؤسسات تعليمية، بل منظومة متكاملة توظّف مواردها البشرية والثقافية والتقنية لتحويل التعلم إلى أسلوب حياة، وإلى ركيزة أساسية في صنع القرار، وتنمية الاقتصاد، وتعزيز التماسك الاجتماعي. ويأتي تبني مفهوم مدن التعلم في المملكة العربية السعودية متسقًا مع الطموحات الكبرى لرؤية 2030، التي جعلت الاستثمار في الإنسان محورًا رئيسا للتنمية الشاملة. إذ تسعى الرؤية إلى بناء مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح، وهي أهداف لا يمكن تحقيقها دون منظومة تعليم مرنة، مستدامة، ومنفتحة على التعلم المستمر. ومن هذا المنطلق، تمثل مدن التعلم أحد المسارات الداعمة لترجمة الرؤية من إطارها الاستراتيجي إلى واقعٍ عملي ينعكس على جودة الحياة، وكفاءة رأس المال البشري، وقدرة المدن على المنافسة محليًا وعالميًا. وتتجاوز مدن التعلم المفهوم التقليدي للتعليم لتشمل التعلم النظامي وغير النظامي، والتعلم المجتمعي، والتعلم في بيئة العمل، بما يتيح فرصًا متكافئة لجميع فئات المجتمع، ويعزز الشمولية والعدالة التعليمية. كما تسهم في ربط التعليم باحتياجات سوق العمل، ودعم الابتكار وريادة الأعمال، ورفع كفاءة المهارات الوطنية، بما يتوافق مع متطلبات الاقتصاد المعرفي الذي تستهدفه رؤية 2030. إن الحديث عن مدن التعلم هو حديث عن مدن أكثر وعيًا، وأكثر قدرة على استشراف المستقبل، ومدن تُدار بعقلية التعلم لا بعقلية التلقين. وهو أيضًا حديث عن شراكة فاعلة بين الجهات الحكومية، والقطاع الخاص، والمؤسسات التعليمية، والمجتمع المدني، لصناعة بيئة تعليمية مستدامة تُنتج المعرفة وتعيد توظيفها في خدمة التنمية. ومن هنا، تكتسب مدن التعلم أهميتها كخيار استراتيجي، لا كترفٍ تنموي، في مسيرة المملكة نحو تحقيق أهداف رؤيتها وبناء مستقبلٍ يقوم على الإنسان أولًا. رافعة تنموية تعيد تشكيل التعليم والمجتمع تُعد «مدن التعلم» أحد المفاهيم التنموية الحديثة التي تكتسب أهمية متزايدة في ظل التحولات المعرفية والاقتصادية المتسارعة، لما تمثله من إطار شامل يربط التعليم بالتنمية المستدامة وجودة الحياة. فمدن التعلم لا تقتصر على توفير فرص التعليم التقليدي، بل تقوم على إتاحة التعلم بصورة عادلة وشاملة، وتوظيف الأساليب المبتكرة التي تسهم في بناء المهارات والكفاءات الوطنية، وتعزيز القدرات الرقمية، ودعم ثقافة ريادة الأعمال، بما ينسجم مع مرتكزات رؤية المملكة العربية السعودية 2030 التي تستهدف بناء مجتمع حيوي، واقتصاد مزدهر، ووطن طموح يقوده إنسان مؤهل وقادر على المنافسة. ويبرز دور مدن التعلم كذلك في دعم تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة على المستويين المحلي والإقليمي، لاسيما الهدف الرابع المتعلق بضمان التعليم الجيد والمنصف مدى الحياة، والهدف الحادي عشر المعني ببناء مدن ومجتمعات محلية مستدامة وقادرة على مواجهة التحديات المستقبلية. إذ تُسهم هذه المدن في خلق بيئات تعليمية مرنة تُمكّن الأفراد من تطوير ذواتهم، وتعزز رفاههم الاجتماعي، وتزوّدهم بالمعارف والمهارات اللازمة للتكيف مع متغيرات سوق العمل وتسارع التقنيات الحديثة، بما يدعم النمو الاقتصادي ويحد من مظاهر الإقصاء الاجتماعي، ويعزز في الوقت ذاته الشعور بالانتماء المجتمعي والحفاظ على الخصوصية الثقافية للمدن. وتتجلى أهمية مدن التعلم في قدرتها على إنتاج حلول محلية تنطلق من احتياجات المجتمع نفسه، ومعالجة التحديات التي تواجه المدن من خلال التعلم التشاركي، وتبادل الخبرات مع مدن التعلم الأخرى ضمن الشبكات الدولية، بما يسهم في تطوير نماذج ناجحة قابلة للتطبيق والتوسع. كما تلعب دورًا فاعلًا في تحفيز قادة المدن ومقدمي الخدمات وتمكينهم من أدوات التخطيط القائم على المعرفة، بما ينعكس إيجابًا على تحسين الخدمات ورفع كفاءة إدارة الموارد. وتحظى هذه المدن بدعم فني ومعرفي من معهد اليونسكو للتعلم مدى الحياة، الذي يساند بناء القدرات البشرية وتطوير السياسات التعليمية المستدامة، في إطار التزام المدن بمفهوم التعلم مدى الحياة، بما يجعل مجتمعاتها أكثر استعدادًا للتعامل مع الأزمات والمتغيرات الطارئة. وفي هذا السياق، سعت المملكة العربية السعودية إلى ترسيخ مبدأ شمولية التعليم بوصفه ركيزة أساسية لتحقيق التنمية المستدامة، من خلال إتاحة التعليم المنصف لكافة فئات المجتمع في مختلف مناطق ومحافظات المملكة، بدءًا من مرحلة رياض الأطفال وصولًا إلى التعليم الجامعي. كما تبنت المملكة التحول نحو اقتصاد المعرفة ومجتمعات التعلم، وركزت على تنمية رأس المال الفكري، وتعزيز تكافؤ الفرص بين الجنسين، وقيادة سياسات التعلم مدى الحياة عبر تنفيذ ودعم المبادرات المحلية النوعية، ومنها مبادرة «استدامة»، بما أسهم في رفع تنافسية التعليم السعودي عالميًا، وتحقيق إنجازات لطلاب المملكة تمثلت في جوائز دولية وبراءات اختراع عالمية. واكبت المملكة كذلك التوجهات العالمية في توظيف تقنيات التعليم الحديثة، والاستفادة منها كبدائل تعليمية فاعلة خلال جائحة كورونا وما بعدها، إلى جانب التوسع في مدارس التعليم المستمر، وتشغيل مراكز الأحياء المتعلمة، وتفعيل برامج التدريب المهني للكبار على مهارات الوظائف المستقبلية. وقد أُتيحت فرص التعلم للرجال والنساء ممن تجاوزت أعمارهم 15 عامًا، مع التركيز على تزويد الأفراد في مختلف المراحل العمرية بالمهارات التي تمكنهم من المشاركة الفاعلة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. وامتدت هذه الجهود لتشمل إطلاق البرامج النوعية والمشاريع ذات الجودة، وإعادة تأهيل العاطلين عن العمل ورفع كفاءتهم، إلى جانب الاهتمام بذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة ودمجهم في منظومة التعلم والتنمية. وبالتوازي مع تطوير منظومة التعليم، أولت المملكة اهتمامًا بقطاعات الصناعة والسياحة والترفيه، ودعمت تنمية الموارد البشرية، وعملت على توفير المقومات الاقتصادية والاجتماعية اللازمة، ونشر ثقافة التطوع، وتعزيز تنوع أنماط الحياة الاجتماعية، بما يعكس تكامل الأدوار بين التعليم والتنمية الشاملة. وقد أسفرت هذه الجهود المتكاملة عن تحقيق إنجازات ملموسة في مسار مدن التعلم، تمثلت في اعتماد مدينة الجبيل الصناعية مدينة تعلم عام 2020م، وحصولها على جائزة أفضل مدينة تعلم ضمن شبكة اليونسكو عام 2021م، ثم اعتماد مدينة ينبع الصناعية مدينة تعلم عام 2022م، إلى جانب اعتماد مدينة المدينةالمنورة ومدينة الملك عبدالله الاقتصادية ومحافظة الأحساء ضمن مدن التعلم عام 2024م، بما يعكس تقدم المملكة في تبني هذا النموذج العالمي وترسيخه كأحد مسارات التنمية المستدامة الداعمة لتحقيق رؤية 2030. مساحات جديدة لتعليم المرأة شكّلت «مدن التعلم» إحدى الأدوات الحديثة التي أعادت تعريف دور التعليم في المجتمعات، ليس بوصفه مسارًا أكاديميًا تقليديًا، بل باعتباره عملية مستمرة تواكب التحولات الاجتماعية والاقتصادية وتستجيب لاحتياجات الأفراد في مختلف مراحل حياتهم. وفي هذا الإطار، برزت مدن التعلم كرافعة حقيقية لتمكين المرأة السعودية، من خلال توسيع نطاق وصولها إلى التعليم والتدريب، وفتح آفاق جديدة أمام مشاركتها الفاعلة في التنمية الوطنية. وقد أسهم تبني المملكة لمفهوم مدن التعلم في كسر كثير من الحواجز التقليدية التي كانت تحد من فرص المرأة في التعلم المستمر، عبر إتاحة مسارات تعليمية مرنة ومتنوعة تراعي اختلاف الأعمار والظروف الاجتماعية والمهنية. فلم يعد التعليم حكرًا على مرحلة عمرية أو تخصص محدد، بل أصبح متاحًا للمرأة في أي وقت، سواء لتطوير مهاراتها، أو إعادة تأهيلها مهنيًا، أو الانتقال إلى مجالات جديدة تتواكب مع متطلبات سوق العمل المتغير. وتوفّر مدن التعلم للمرأة السعودية بيئة تعليمية شاملة تجمع بين التعليم النظامي وغير النظامي، والتدريب المهني، والتعلم المجتمعي، والتعلم الرقمي، بما يتيح لها اكتساب المهارات التقنية والرقمية، وتعزيز قدراتها في مجالات الابتكار وريادة الأعمال، والعمل الحر، والاقتصاد المعرفي. كما أسهمت هذه المدن في توسيع نطاق البرامج التدريبية المتخصصة التي تستهدف النساء، سواء في القطاعات الحديثة أو في المجالات التي تشهد نموًا متسارعًا، ما عزز من جاهزية المرأة للمنافسة في سوق العمل والمشاركة في الاقتصاد الوطني. ولعبت مدن التعلم دورًا مهمًا في دعم مبدأ العدالة التعليمية وتكافؤ الفرص بين الجنسين، عبر توفير فرص متساوية للوصول إلى المعرفة والتدريب دون تمييز، مع مراعاة الخصوصية الثقافية والاجتماعية للمجتمع السعودي. وأسهم ذلك في رفع نسب التحاق المرأة ببرامج التعليم المستمر، وزيادة مشاركتها في المبادرات المجتمعية والتطوعية، وتعزيز ثقتها بقدراتها على التطور المهني والقيادي. كما انعكس أثر مدن التعلم على تمكين المرأة اقتصاديًا، من خلال ربط برامج التعليم والتدريب باحتياجات سوق العمل المحلي، وتشجيع النساء على الدخول في مجالات جديدة، وإطلاق المشاريع الصغيرة والمتوسطة، والمشاركة في القطاعات الواعدة. وأسهمت هذه البيئة الداعمة في تحويل التعليم إلى أداة فاعلة لتحسين مستوى الدخل، وتعزيز الاستقلالية الاقتصادية للمرأة، ودعم دورها كشريك أساسي في تحقيق التنمية المستدامة. وعلى المستوى الاجتماعي، أسهمت مدن التعلم في تعزيز وعي المرأة السعودية بدورها المجتمعي، وتنمية مهاراتها الحياتية، وتمكينها من المشاركة في صنع القرار المحلي، والمبادرات الاجتماعية، والعمل التطوعي. كما ساعدت على دمج المرأة في الفضاءات الثقافية والمعرفية للمدينة، والحفاظ على الهوية المحلية، وتعزيز الشعور بالانتماء، بما ينسجم مع مستهدفات بناء مجتمع حيوي ومتلاحم. وتبرز أهمية مدن التعلم للمرأة السعودية أيضًا في قدرتها على التكيّف مع المتغيرات الطارئة، سواء الاقتصادية أو التقنية أو الاجتماعية، إذ يوفّر التعلم مدى الحياة أدوات مستدامة للتأهيل المستمر، ويمنح المرأة القدرة على مواكبة التحولات المتسارعة في سوق العمل، خصوصًا في ظل الثورة الرقمية وتغير أنماط الوظائف. وقد ظهر هذا الدور بوضوح في توسّع برامج التعليم عن بُعد، والتدريب الإلكتروني، التي أتاحت للمرأة فرص التعلم دون قيود المكان أو الزمان. وفي المجمل، يمكن القول إن مدن التعلم أسهمت في إحداث نقلة نوعية في مسار تمكين المرأة السعودية، من خلال تحويل التعليم إلى منظومة مفتوحة وشاملة، تضع المرأة في قلب التنمية، وتمنحها الأدوات اللازمة للمشاركة الاقتصادية والاجتماعية بفاعلية. ومع استمرار المملكة في تبني هذا النموذج وتطويره، تتعزز فرص المرأة في الوصول إلى التعليم والتدريب في مختلف المجالات، بما يدعم مستهدفات التنمية المستدامة ويجسد رؤية وطنية ترى في المرأة عنصرًا محوريًا في بناء المستقبل. تنمية شاملة لا خيارًا مرحليًا لم تعد تجربة «مدن التعلم» ترفًا تنمويًا أو خيارًا يمكن تأجيله، بل أصبحت ضرورة حتمية تفرضها التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم في مجالات الاقتصاد والمعرفة والتقنية وسوق العمل. ففي ظل تصاعد التحديات العالمية، وتغيّر طبيعة الوظائف، وتسارع الابتكار الرقمي، لم يعد النمو المستدام ممكنًا دون مجتمعات قادرة على التعلم المستمر، والتكيّف السريع، وإعادة إنتاج المعرفة بما يخدم التنمية المحلية والوطنية. وتنبع أهمية مدن التعلم من كونها إطارًا تنمويًا شاملًا يعيد صياغة العلاقة بين الإنسان والمدينة، حيث يتحول التعلم من نشاط محدود في المؤسسات التعليمية إلى منظومة متكاملة تشمل الحياة اليومية، وبيئة العمل، والمجتمع المحلي. فمدينة التعلم لا تكتفي بتوفير فرص التعليم، بل توظّف التعلم كأداة استراتيجية لمعالجة القضايا الاجتماعية والاقتصادية، ورفع كفاءة رأس المال البشري، وتحسين جودة الحياة، وتعزيز التماسك المجتمعي. كما تمثل مدن التعلم ضرورة تنموية لأنها تُسهم في بناء مجتمعات أكثر عدالة وشمولية، عبر إتاحة فرص التعلم لجميع الفئات دون استثناء، بمختلف الأعمار والخلفيات، وتمكين الأفراد من تطوير مهاراتهم بما يتلاءم مع متطلبات العصر. وهذا النهج لا يحدّ فقط من الفجوات التعليمية، بل يسهم في تقليص الفوارق الاجتماعية والاقتصادية، ويعزز المشاركة المجتمعية، ويمنح الأفراد القدرة على الإسهام الفاعل في التنمية. وعلى الصعيد الاقتصادي، تبرز مدن التعلم كأحد المحركات الرئيسة للاقتصاد المعرفي، إذ تربط التعليم والتدريب باحتياجات سوق العمل، وتدعم الابتكار وريادة الأعمال، وتسهم في إعداد قوى عاملة مرنة وقابلة للتأهيل المستمر. وتكمن الضرورة هنا في أن الاقتصادات الحديثة لم تعد تعتمد على الموارد التقليدية فحسب، بل على المعرفة والمهارات والقدرة على الابتكار، وهي عناصر لا يمكن ترسيخها دون تبني نموذج مدن التعلم. أما على المستوى الحضري، فتساعد مدن التعلم في تطوير حلول محلية لقضايا محلية، من خلال إشراك المجتمع في إنتاج المعرفة واتخاذ القرار، وتعزيز الشراكات بين الجهات الحكومية، والمؤسسات التعليمية، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني. ويجعل هذا التفاعل المدينة أكثر قدرة على مواجهة التحديات المستقبلية، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو طارئة، ويعزز مرونتها واستدامتها. وتتأكد ضرورة مدن التعلم في قدرتها على الاستجابة للأزمات والتحولات المفاجئة، كما ظهر جليًا خلال الأزمات الصحية والاقتصادية العالمية، حيث برز التعلم الرقمي والتعليم المرن كأدوات أساسية لضمان استمرارية التعليم وبناء القدرات. فالمجتمعات التي تبنت التعلم مدى الحياة كانت أكثر جاهزية للتكيف، وأسرع في استعادة توازنها، وأكثر قدرة على تحويل التحديات إلى فرص. في المحصلة، تمثل تجربة مدن التعلم خيارًا استراتيجيًا لا غنى عنه لبناء تنمية شاملة ومستدامة، تقوم على الإنسان بوصفه محور التغيير وغاية التنمية. فهي ليست مشروعًا مؤقتًا أو مبادرة محدودة الأثر، بل مسار طويل الأمد يعيد تشكيل المدن لتكون بيئات حاضنة للمعرفة، ومحفزة للابتكار، وقادرة على صناعة المستقبل. ومع استمرار المملكة في تبني هذا النموذج وتطويره، تتعزز فرص بناء مدن تتعلم باستمرار، ومجتمع يمتلك أدوات التقدم، وتنمية تستجيب لتحديات اليوم وتستشرف آفاق الغد بثقة واستدامة.