في المشهد الاتصالي المعاصر، لم يعد الفصل بين الإعلام والإعلان مسألة شكلية أو تقنية، بل أصبح خيطًا رفيعًا يتقاطع عنده وعي المجتمع مع المصالح التجارية، وتُختبر فيه مصداقية الرسائل قبل أي شيء آخر؛ فالإعلام بطبيعته وُجد ليكون مرآة للواقع وحارسًا للحقيقة، بينما الإعلان صُمّم ليقنع ويدفع نحو قرار محدد؛ غير أن تشابك الأدوات الرقمية وتداخل المنصات جعل هذا الخيط يكاد لا يُرى، فتحولت بعض الرسائل الإعلامية إلى مواد ترويجية مغلّفة بخطاب مهني، تُمرّر بسلاسة لكنها تترك أثرًا عميقًا في وعي المتلقي وتوقعاته من المحتوى. بلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في السعودية حوالي 34.1 مليون مستخدم، مما يعكس مدى الاعتماد الرقمي في حياتهم اليومية، وجود هذا الكم الضخم من الجمهور فتح بابًا واسعًا للإعلان داخل المحتوى الإعلامي، بحيث لا يكاد المتلقي يميز بين ما هو مضمون إعلامي وأي إعلان مُدفَع؛ وفسحت المجال للاعتماد المتزايد على الإعلانات الرقمية داخل المنصات نفسها، لذا وصل حجم سوق الإعلان الرقمي في السعودية إلى مستويات مرتفعة، حيث تقدر بحوالي 1.5 مليار دولار أمريكي نتيجة التحول الرقمي وزيادة إنفاق الشركات على الترويج عبر الإنترنت. على المستوى العالمي، يؤكد تقرير عالمي أن إيرادات الإعلانات حول العالم من المتوقع أن تصل إلى أكثر من 1.08 تريليون دولار في عام 2025، مع هيمنة واضحة للإعلانات الرقمية التي تستحوذ على حوالي 73.2% من إجمالي الإنفاق الإعلاني عالميًا، مما يوضح قوة التأثير الاقتصادي للإعلان ومدى اعتماده على الجمهور الرقمي الذي يقضّي في المتوسط أكثر من ثلاث ساعات يوميًا على منصات التواصل الاجتماعي، بحسب أحدث الإحصاءات الدولية. ولأن الجمهور اليوم يتعرض لهذا التدفق الكبير من الرسائل، صار الإعلام سلاحًا ذا حدّين؛ يقدر أن يرفع منسوب الوعي ويصحّح المفاهيم، لكنه في الوقت ذاته يمكن أن يكون أداة تضليل إن لم يُحافظ على معاييره، فالإشكالية الأساسية هي عدم وضوح الحدود بين المحتوى الإعلامي والمحتوى المدفوع، بحيث يختلط على المتلقي أيهما معلومة وأيهما إعلان، ما يضعف الثقة في المنبر الذي استُخدم فيه هذا المحتوى؛ وإذا فقد الإعلام بوصلته في هذا السياق، يتحول من جسر موثوق للمعلومة إلى قناة تجارية تقيس النجاح بعدد النقرات والمشاهدات، وليس بعدد التأثير الحقيقي على المجتمع. إضافة إلى ذلك، كثير من الأبحاث الدولية تقول إن المحتوى الذي يُنتج بواسطة المستخدمين على منصات مثل يوتيوب وتيك توك وإنستجرام قُدّر أن يتجاوز إيرادات الإعلانات التقليدية في 2025، وهذا التحول الكبير يعكس تأثير المحتوى الرقمي في توجيه السوق، وحتى في صنع الرأي العام. وسط هذه الأرقام، يبرز السؤال الأهم: كيف يحافظ الإعلام على مصداقيته ويستفيد الإعلان من قوته الاقتصادية بدون التضحية بنزاهة الرسالة؟ الحل ليس في منع الإعلان من دخول المحتوى الإعلامي، ولا في محاربة الإعلام المُمَوَّل، بل في وضوح شفافية التصنيف بين ما هو محتوى إعلامي تقريري وما هو إعلان مدفوع. الإفصاح عن طبيعة كل رسالة، واحترام عقل المتلقي، ومراعاة الضوابط المهنية في إعداد المحتوى، تخلق توازنًا يحمي الثقة، ويضمن أن يكون التأثير لأجل المعرفة لا لأجل البيع فقط. إذا أردنا أن نقرأ الواقع بموضوعية، فالاعتماد الكبير على المنصات الرقمية يجعل إعلان اليوم أكثر قدرة على التأثير في القرارات الشرائية وحتى في السلوكيات الاجتماعية، بينما الإعلام تظل مهمته الأساسية هي تفسير الحقيقة وتقديم منطلق معرفي للجمهور. والمهم هنا أن يفصل كلاهما بين الغاية والأداة، فالإعلام يبقى سلاح التوعية والمعرفة، والإعلان يبقى سطوة التأثير التجاري، ولا يمكن أن ينجح أحدهما إن ضاع في ظل الآخر دون حدود واضحة أو ضوابط مهنية.