في زمنٍ لم يعد فيه الميكروفون حكرًا على الإعلاميين، تحوّلت المنصات الرقمية إلى فضاء مفتوح يتحدث فيه الجميع، وينتج فيه أي شخص محتوى قد يصل إلى الملايين خلال دقائق. لقد منحت التكنولوجيا الحديثة أدوات هائلة للتعبير، لكنها في المقابل فتحت أبوابًا واسعة للفوضى، حيث تلاشى الخط الفاصل بين الحرية والمهنية، وتراجعت القيم أمام بريق الشهرة السريعة، وهوس الثراء الرقمي. ومع اندفاع البعض خلف الأضواء، تراجعت معايير المصداقية، وغابت المسؤولية الأخلاقية، فظهرت مشاهد من الانفلات والسطحية أساءت لرسالة الإعلام، وأربكت وعي المجتمع. وفي مواجهة هذه الحالة، لم تتوانَ الهيئة العامة لتنظيم الإعلام عن أداء دورها التنظيمي، فأطلقت منظومة من الضوابط الجديدة لصناعة المحتوى، هدفها بناء بيئة إعلامية ناضجة تحترم القيم، وتعزز الهوية الوطنية، وتحمي الذائقة العامة من الابتذال. ما يميّز مقاربة الهيئة أنها لم تكتفِ بالمنع والعقوبات، بل قدّمت نموذجًا متوازنًا بين التنظيم والوعي، ففتحت المجال لصنّاع المحتوى عبر منصة "إعلام" للحصول على تراخيص تمنح الموثوقية للمشهد الرقمي، وأطلقت في الوقت نفسه حملات توعوية تحث الجمهور على المشاركة في الرقابة الإيجابية، عبر الإبلاغ عن المحتوى المسيء. بهذا، لم يكن التنظيم مجرّد إجراء إداري، بل شراكة مجتمعية واعية تعيد صياغة العلاقة بين الإعلام والمتلقي. وفي حين ينشغل كثير من الجهات حول العالم بتفاصيل تقنية تتعلق بالإعلانات والإفصاحات، جاءت رؤية الهيئة بشكل أشمل وأعمق، إذ تناولت صناعة المحتوى كمنظومة قيم وتأثير وسلوك اجتماعي، تستحق أن تُدار بعقلية المستقبل لا بعشوائية اللحظة. فالمجتمع السعودي اليوم شاب، متفاعل، ومتصل رقمياً، والمنصات أصبحت جزءًا من حياته اليومية ومصدرًا رئيسيًا للمعلومة والتأثير. لذا كان من الطبيعي أن يتحرك التنظيم بالسرعة نفسها التي يتحرك بها المحتوى. إن الجهود الحالية لا تستهدف التضييق على الإبداع، بل تهدف إلى تحريره من الفوضى. فالمحتوى الجاد والواعي هو الذي يصنع الثقة، ويرتقي بالذوق، ويبني وعيًا جماعيًا يحمي المجتمع من الانجراف وراء ما يلمع ولا ينفع. وفي نهاية المطاف، ما تقوم به الهيئة ليس مجرد تنظيم لمهنة، بل إعادة صياغة لوعي أمةٍ تدرك أن الكلمة مسؤولية، وأن الإعلام رسالة لا مهنة فحسب.