يعد أدب الرحلات من أهم الفنون الحية التي ترافق الإنسان في بحثه عن العلم والمعنى، فهو يجمع بين الطابع السردي والتوثيقي، حيث يلتقي فيه الاكتشاف بالكتابة، والوصف بالحكاية، والواقع بالتأمل، ويُعد أحد أكثر الأجناس الأدبية ثراءً واتساعًا لما يحتويه من المعرفة والمتعة، وما يقدمه من الوصف الدقيق، وما ينقله من الاختلافات الحضارية والثقافية، فقد تغير مفهوم السفر مع تطور أدوات المعرفة فلم يعد يكتفي بأن يكون حالة وصفية للأمكنة بل يعيد صياغتها من خلال النص، فأدب الرحلات منبر توثيقي للتجارب الفردية والجماعية، ووسيلة مهمة لبناء الجسور بين الشعوب حيث يُمكن القارئ من اكتشاف العالم والتعرف على ثقافاتٍ بعيدة، ويمنحه تجربة معرفية تتجاوز حدود الزمان والمكان، أيضًا هو يساهم في الحفاظ على ذاكرة المدن، والمجتمعات، والعادات والتقاليد، كما أنه يمتلئ بالحضور الإنساني الذي يضيف العمق للنص وذلك لأنه وباختصار يمس ذات الكاتب وشعوره، وبالتالي ينقلها لنا ضمن سياقات عاطفية واجتماعية وثقافية وتاريخية، ويعد (الوصف) الهيكل الأساسي للبنية الفنية للنص الرحلي حيث يعيد تشكيل المشاهد الطبيعية، والوجوه البشرية، والشوارع والأسواق، والعادات الاجتماعية بلغة تجعل القارئ وكأنه على متن الرحلة، ولا يعد هذا النوع من الأدب أدبًا حديثًا، بل قديم جدًا وقد ظهرت أولى صوره في سجلات الرحّالة والتجّار والمستكشفين في الحضارات، ورغم التطور الهائل في العصر الحديث لم يفقد قيمته بل اتسعت أشكاله، ليضيف للنص الكتب المصورة، والمدونات والمذكرات الرقمية، فقد بقي جوهر هذا الأدب ثابتًا متمثلًا في سعي الإنسان للمعرفة والاكتشاف، ورغم أن العالم قد أصبح مكشوفًا جغرافياً إلا أنه مازال غنيًا بأسئلة الاختلاف والثقافة والهوية، لذا أدب الرحلات يعد تجربة فلسفية وأنثروبولوجية لها دور فعال في توثيق علاقة الفرد بالعالم، لأنها مزيج بين التأمل، والسرد، واللغة والعلم، ولأنها تفتح النوافذ على الذات والآخرين.