شهدت الأسواق مؤخرًا توجهًا ملحوظًا نحو شراء الذهب، وهو ما يدفع لطرح تساؤلات حول دوافع هذا الإقبال المتزايد. ويقدم رجل الأعمال والمتخصص في الاقتصاد والإدارة بندر الغامدي قراءة توضح ملامح هذا السلوك وأبعاده الاقتصادية. يرى الغامدي أن الميل إلى اقتناء الذهب ليس طارئًا ولا ظاهرة مستجدة، بل هو سلوك بشري ضارب في التاريخ ارتبط بالجمال والقيمة والقدرة على الاحتفاظ بالثروة. ومع تنوع أغراض الشراء بين الحُلي والزينة والادخار والاستثمار، تبقى "ظاهرة الاكتناز" هي الجانب الأقل إيجابية اقتصاديًا، لأنها تُخرج رأس المال من الدورة الاقتصادية وتقلل المنفعة المتحققة من العملة. ورغم ذلك، يؤكد الغامدي أن هذا السلوك لا يتحول لعبء اقتصادي فعلي إلا في حال بلوغه نسبًا ضخمة وغير واقعية من حجم الاستثمارات داخل الدولة، وهو ما لا ينطبق على السوق السعودية ذات البدائل الاستثمارية الجاذبة. أما عن الربط بين انتشار التوثيق في وسائل التواصل الاجتماعي وارتفاع موجة شراء الذهب، فيوضح الغامدي أن محبة الذهب لدى النساء لم يخلقها "التوثيق"، بل عززها. فحب الذهب قائم بطبيعته سواء جرى تصويره أو لم يُصوَّر، لكن ثقافة المشاركة أسهمت في تضخيم الرغبة في الشراء ورفع وتيرة الاستهلاك، بعد أن تحولت كثير من السلع من "معمرة" إلى "استهلاكية" بفعل تأثير المحتوى الرقمي، ومن ضمنها الذهب، فالتوثيق لم يغيّر الدافع، بل سرّع القرار الشرائي وأصبح مؤثرًا في حجم ووتيرة الطلب. ويشير الغامدي إلى أن تحويل شراء الذهب إلى استثمار فعلي ليس أمرًا معقدًا، بل يتوافق مع طبيعة الأصل نفسه. فالقيمة الشرائية للنقود تتناقص مع مرور الزمن نتيجة التضخم، بينما تميل الأصول النادرة - كالذهب - إلى الثبات أو الارتفاع على المدى الطويل، ما يجعل الاحتفاظ به استثمارًا حتى دون نية مسبقة، ولتعظيم الجدوى، ينصح بالتركيز على الذهب عالي النقاوة، والابتعاد قدر الإمكان عن المشغولات التي ترفع التكلفة دون فائدة استثمارية، إضافة إلى عدم المبالغة في حجم الذهب ضمن المحفظة المالية، والحرص على الشراء خلال فترات هدوء الأسواق بدلًا من أوقات الذروة. إلى ذلك سجل الذهب ارتفاعاً بنحو 0.5 % صباح أمس مع محاولته التماسك أعلى مستوى 4200 دولار للأوقية. ويعكس هذا التحرك تجدد الثقة في أن الاحتياطي الفيدرالي يستعد لتنفيذ عدة تخفيضات في الفائدة، إلى جانب استمرار التأخر في انعكاس ضعف البيانات الأمريكية خلال مطلع هذاالربع. وحتى الآن، يستند المشترون أكثر إلى توقعات السياسة النقدية لا إلى أساسيات النمو. وقال سامر حسن، محلل أسواق أول في XS.com أن موجة الصعود تبدو متزايدة الهشاشة. فالتعافي الأسرع للاقتصادالأمريكي عقب التراجع عن الرسوم الجمركية أو حلّ أزمة الإغلاق الحكومي قد يغير المشهد الاقتصادي بسرعة. كما أن أسواق الأسهم توحي بإمكانية حدوث ذلك، إذ يواصل مؤشر راسل 2000 التقدم نحو مستويات قياسية بينما تمتد شهية المخاطر إلى أكثر الزوايا مضاربة في السوق. وتتضح الضغوط أيضاً في سوق الدخل الثابت. فمؤشر الخوف في سوق سندات الخزانة "Merrill Lynch Option Volatility Estimate" يقترب من أدنى مستوياته المسجلة في 2021، ما يشير إلى هدوء غير معتاد في أوضاع السندات رغم تصاعد الضبابية في أماكن أخرى. وعندما ينخفض تقلب السندات بينما ترتفع الأسهم على نطاق واسع، يصبح من الصعب تبرير الذهب كأداة تحوّط دفاعية. ويبقى المحفز الواضح الوحيد للذهب في هذه المرحلة هو التوقعات المتعلقة بالسياسة النقدية. فبحسب أرقام CME FedWatch، لا تزال الأسواق تمنح احتمالات ملموسة لخفض الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس في ديسمبر يعقبه خفض آخر في يناير. وتوفر هذه التوقعات أرضية داعمة للذهب، لكنها لاتضمن بالضرورة مزيداً من الاتجاه الصعودي ما لم تتوافق الظروف الاقتصادية الأوسع. وبحسب صحيفة وول ستريت جورنال، تحسنت معنويات المستثمرين في الأسهم لأسباب تتجاوز طفرة الذكاء الاصطناعي. وقد أشار محللون إلى تحسن توقعات النمو على المدى الطويل، ورسائل التضخم المستقرة، والتقييمات التي لا تزال محتملة بفضل تراجع عوائد سندات الخزانة. وقد دفع هذا المشهد كلاً من مؤشر S&P 500 وراسل 2000 إلى الاقتراب من مستويات قياسية مع تدفق رأس المال إلى كل من الشركات الكبرى والصغيرة. ويُعد هذا التحول مهماً للذهب لأنه يعكس سوقاً باتت أكثر ارتياحاً للمخاطر، ما يقلل الحاجة إلى الملاذات الدفاعية ويصعّب على الذهب محاولته الحالية للصعود. وفي ظل هذا المناخ، يبدو تقدّم الذهب نحو 4200 أقرب إلى اختبار لقوة القناعة منه إلى اختراق فعلي. فالذهب يحتاج إما إلى تدهور واضح في زخم النمو الاقتصادي أو إلى إشارة أوضح من السياسة النقدية حتى يمتد صعوده من هذه المستويات. وفي غياب ذلك، تشير موازين الاحتمالات إلى سوق تعتمد على الأمل أكثر من اعتمادها على الأساسيات بينما يحاول الذهب الحفاظ على مكاسبه الأخيرة. بندر الغامدي