في حياة الإنسان محطات كثيرة يمرّ بها، يتغير فيها موقعه ومهمته، وتتبدّل فيها أدواره ومسؤولياته، لكن هناك ثوابت لا يُمسّها التحوّل ولا يُغيّرها الزمن، وفي مقدمتها الوطن. فالوطن ليس مجرد هوية في بطاقة، ولا اسمًا في خرائط الجغرافيا، بل هو شعور فطري يُولد مع الإنسان، ويتجلّى في لغته، وذاكرته، وعاداته، وطريقته في الفهم والتفسير والانحياز. وعندما نتحدث عن الانتماء، فنحن نتحدث عن حالة وجدانية تجعلنا جزءًا من نسيج الوطن. لكن حين يُذكر الولاء، فنحن أمام مستوى أعمق وأكثر التزامًا؛ إذ إن الانتماء شعورٌ بالارتباط بالمكان، أما الولاء فهو العهد بأن نحميه، وأن نكون حُرّاس صورته وقيمته ومكانته، كلٌ من موقعه، وبقدر ما يحمل من تأثير ومسؤولية. والإعلام -باختلاف منصاته ومجالاته واتجاهاته- ليس مساحة محايدة بالكامل. فالكلمة تُصنع، وتُحمَّل بالمعنى، وتبقى في ذاكرة المتلقي طويلًا بعد أن تُقال أو تُكتب. والإعلامي الحقيقي ليس مجرد ناقل للحدث، بل هو قارئ لمعناه، ومقدّر لأثره، ومدرك لحدوده الأخلاقية حين يتعلق السياق بالوطن. ومن المهنية الصحفية أن يكون الصحفي ملمًّا ومحضِّرًا للحدث بشكلٍ جيد؛ فلا يخطئ في اسم المتحدث فضلاً عن عدم معرفته به، لأن الاحترام يبدأ من الإتقان والتحضير الجيد قبل أن يكون من الكلمات. ومن أوجب المعايير في مهنة الإعلام: أن نُفرّق بين السؤال الذي يُبنى على المعرفة، والسؤال الذي يُبنى على التشكيك، وبين النقد الذي يهدف إلى التطوير، والنقد الذي يفتح ثغرة قد تمرّ منها الإساءة قبل الحقيقة. وهذه القدرة على التمييز ليست مهارة مهنية فقط، بل هي وعي وطنيّ، لا ينفصل عن الشخصية الإعلامية مهما التزمت بالموضوعية. والإعلامي -رياضيًا كان أو اقتصاديًا، أو ثقافيًا أو فنيًا ...- يمثل وجهًا من وجوه وطنه، حتى عندما يظن أنه يتحدث من زاويته الخاصة أو عن موضوع محدد. فهناك لحظات يكون فيها الوطن هو الموضوع، حتى لو لم يُذكر اسمه صراحة، لأن الجوهر لا يحتاج دائمًا إلى تصريح كي يُعرَف. وفي تلك اللحظات، لا يكون الصمت حيادًا، ولا تكون المجاملة لباقة، ولا يكون التخفيف حكمة. بل تكون الكلمة موقفًا، والرد مسؤولية، والمهنية التزامًا بحدود لا يطالها الجدل: حدود الكرامة الوطنية. ولا يعني هذا أن يتحول الإعلام إلى خطاب مديح مستمر، أو إلى تكرار شعارات بلا أثر أو معنى، بل يعني أن تكون الحقيقة مرتبطة بالمسؤولية، وأن يكون النقد عادلًا وفي موضعه وزمانه ولغته، وأن يكون الإعلامي ضابطًا لميزان الكلام حين يلامس الحوار ما يرمز للوطن. فالولاء ليس انحيازًا أعمى، بل هو وعي بصوت الوطن داخلنا مهما تعددت الأصوات حولنا. والانتماء ليس مجرد شعور لطيف، بل سلوك يظهر في اختيار المفردة، وفي نبرة السؤال، وفي احترام الرموز، وفي إدراك أن بعض الملفات لا تُطرح بأسلوب الجدل، بل بروح البناء. فالبلاد لا تنمو فقط بالمشروعات والمباني، بل تنمو أيضًا بمن يحفظ صورتها، ويرتقي بخطابها، ويؤمن أن الدفاع عنها - بالكلمة المسؤولة - لا يقل قيمة عن الدفاع عنها بالسلاح، لأن الحرب ليست دائمًا على الحدود؛ أحيانًا تكون في الوعي. وختامًا: إننا لا نكتب للوطن لأنه موضوع، بل لأنه دِين ودَين. ولا ندافع عنه لأنه يُطلب منا ذلك، بل لأن ذلك جزءٌ منّا. وَطَنٌ لَا نَحْمِيهِ، وَلَا نُسَاهِمُ فِي بِنائِهِ، لَا نَسْتَحِقُّ العَيْشَ فِي فِنائِهِ.